في الذكرى الثلاثين لإنتفاضة الحجر/ راسم عبيدات

لم تكن انتفاضة الحجر- الإنتفاضة الأولى- عابرة في سفر النضال الوطني الفلسطيني الممتد والمتواصل منذ بداية الغزوة الصهيونية الأولى لفلسطين وحتى يومنا هذا،حيث عوامل استدامة الصراع ما زالت مفتوحة وقائمة حتى يومنا هذا،وستبقى قائمة ما دام الإحتلال جاثم على صدورنا ناهب لأرضنا ومتنكراً لحقوقنا ووجودنا.

هذه الإنتفاضة كانت محطة هامة من محطات النضال الوطني الفلسطيني،وادخلت الى قاموس نضال الشعوب مصطلح الإنتفاضة،هذه الإنتفاضة التي كان مفجرها الأساس عنجهية وغطرسة الإحتلال،حيث صدمت احدى شاحناته العسكرية في قطاع غزة يوم 7/12/1987 مجموعة من العمال الفلسطينيين المتجهين الى اعمالهم في فلسطين المحتلة عام 48،ليسقط اربعة منهم شهداء والعديد من الجرحى وفي اليوم التالي،يوم 8/12/1987،انفجر بركان الغضب الفلسطيني من مخيم جباليا مسقط رأس العمال الشهداء،وليمتد لهيب الإنتفاضة الشعبية من القطاع الى كل الضفة الغربية،وليتوحد الكفاح والنضال والدم الفلسطيني على طول وعرض مساحات الوطن،هذه الإنتفاضة قبل التطرق الى ما يميزها عن الإنتفاضات والهبات الشعبية اللاحقة،علينا القول بأن من اهم عوامل اندلاعها،هو الرد على محاولة تهميش منظمة التحرير الفلسطينية والإلتفاف على وحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني،والآن تختمر عوامل إنتفاضة جديدة،ليس فقط عوامل إندلاعها توفرها عمليات القمع والإستيطان والتهويد المستمرة للأرض الفلسطينية،وإغلاق أفق حل الدولتين،بل ما ستقدم عليها الإدارة الأمريكية من عدوان مباشر على الشعب الفلسطيني،عدوان يراد له تشريع الإحتلال والإستيطان وتقويض أسس الشرعية الدولية عبر الإعتراف الأمريكي بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الإحتلال،في إنتقال امريكي من الإنحياز التاريخي مع دولة الإحتلال الى الشراكة الفعلية في العدوان على شعبنا الفلسطيني،وهذه الخطوة غير المسبوقة،إن جرى لجمها والتصدي لها الآن،فانا اعتقد جازما،بأن التراجع عنها سيكون،بما يخدم المخطط الأمريكي لتسويق ما يسمى بصفقة القرن الأمريكية،اما اذا ما أصرت الإدارة الأمريكية على الإعتراف بالقدس عاصمة لدولة الإحتلال الان،فنحن سنكون امام شرارة انتفاضة شعبية شاملة.


إندلعت الإنتفاضة ولكن رغم ان شرارتها كانت عفوية،إلا ان الفصائل استطاعت ان تلتقط اللحظة المناسبة،حيث عملت على تشكيل القيادة الوطنية الموحدة للإنتفاضة كهيئة أركان تقود الشارع الفلسطيني،تضع الخطط والبرامج وتحدد المطالب والهدف الناظم لها،واليات التنفيذ،وتصدر توجيهاتها وتعليماتها للجماهير الفلسطينية في بيانات دورية للمهام المطلوب العمل على تنفيذها،وكيفية العمل على استدامتها وتطويرها،وتحدد شعارها الناظم " لا صوت يعلو فوق صوت الإنتفاضة"،وتبقي على قنوات اتصال دائمة مع القيادة الفلسطينية في الخارج وبالتحديد في تونس،حيث ان القيادة الموحدة كانت الذراع الكفاحي لمنظمة التحرير.


المشهد الانتفاضي اليومي لهذه الإنتفاضة الشعبية،التي تميزت بالزخم والحشد الشعبي الواسع المشارك في أنشطتها وفعالياتها،حيث مختلف الشرائح الإجتماعية شاركت فيها وتوحدت خلف قيادتها ومطالبها،طرق مغلقة بالحجارة والسواتر الترابية وشبان يتمترسون خلف اطارات مشتعلة جاهزون لرمي الحجارة والزجاجات الحارقة على جنود الإحتلال،سحب كثيفة من الدخان الاسود تغطي السماء،جامعات ومؤسسات تعليمية مغلقة،والحديث عن التعليم الشعبي البديل،الأعلام الفلسطينية ترفرف وتزين اعمدة الهاتف والكهرباء وتتزين بها الأسوار وجدران المنازل،والشعارات الوطنية والفصائلية تخط على الجدران من أجل استنهاض الجماهير ودعوتها لمواصلة الكفاح والنضال الشعبي،وتوجيه التحية لشبان الإنتفاضة وتمجيد الشهداء والإشادة بصمود الأسرى الأبطال وتضحياتهم،بيانات (قاوم) في كل مكان،العودة للاقتصاد البيتي والمنزلي،نساء وفتيات يشاركن بفعالية في الانتفاضة،والاطر النسوية واللجان الشبابية تنشط في زيارة الجرحى وبيوت الشهداء،رائحة الدم والموت تنتشر في كل مكان،احتلال فقد السيطرة،الاعلام يفضح ويعري ما يسمى بديمقراطية الإحتلال،جنود بعربات مصفحة يواجهون اطفالا مسلحين فقط بالإرادة والحجارة ومصممين على نيل حريتهم واستقلالهم،الإحتلال يحظر على وسائل الإعلام تغطية فعاليات الإنتفاضة من أجل محاصرة لهيبها المشتعل.


سعى شعبنا الفلسطيني من خلال هذه الإنتفاضة الشعبية لتحقيق حلمه بنيل حريته واستقلاله،ونقل شعار الدولة الفلسطينية من الإمكانية التاريخية الى الإمكانية الواقعية،وكذلك إطلاق سراح كل أسرانا من سجون الإحتلال فلسطينيين وعرب،ووقف "تغول" المحتل على المواطنين والتجار الفلسطينيين عبر فرضه للضرائب الباهظة عليهم،ولعل الخلاف في الإجتهادات السياسية،أحدثت حالة من البلبلة والإرباك في القيادة الفلسطينية،فهناك من رأى بأن لا بد من الإستثمار السياسي لهذه الإنتفاضة الشعبية،استثمار سياسي متسرع،قادنا الى دهاليز مؤتمر مدريد،ومنذ اتفاق المبادىء،اتفاق أوسلو ايلول 1994،الذي رأى فيه البعض ممراً اجبارياً،ونحن ندفع ثمن ذلك المزيد من التفكك على المستوى الوطني والمجتمعي،ناهيك عن ما فعله هذا الإتفاق،من تقسيم للأرض الفلسطينية الى معازل و"جيتوهات" مغلقة،وليستمر النزف الفلسطيني ويتصاعد،نحو الإنقسام المدمر المتواصل،والذي لم ننجح حتى اللحظة في وأده،رغم حجم المخاطر والتحديات الكبيرة المحدقة بقضيتنا ومشروعنا الوطني،هذا الإنقسام الذي يفعل فعله في الجسد الفلسطيني كالسرطان،وليضيف لحالة الضعف الفلسطيني ضعفاً أخر،وليستغل الإحتلال حالة الضعف الفلسطينية هذه،ودخول الحالة العربية في حروب التدمير الذاتي والحروب المذهبية والطائفية،وإنتقال العديد منها لتطبيع علاقاتها بشكل علني ومشرعن مع المحتل على أكثر من صعيد ومستوى،والتي وصلت حد التنسيق والتعاون العلني،والحرف لبوصلة الصراع بإعتبار أن المحتل "اسرائيل" ليست الخطر المباشر على أمننا القومي وأمتنا العربية ووجودها،بل ايران،وكذلك تعطل الإرادة الدولية بسبب اشتباك أقطابها الرئيسية روسيا وأمريكا في معارك وحروب لها أولوياتها على القضية الفلسطينية،ما يحدث في سوريا والعراق ولبنان واليمن،ويضاف لذلك صعود القوى اليمينية المتطرفة في أكثر من بلد أوروبي،ووصول "ترامب" الجمهوري المعروف بيمينيته وتطرفه الى سدة الحكم في أمريكا،كل هذا شجع الحكومة اليمينية المغرقة في التطرف في دولة الإحتلال،من أجل تكريس المزيد من الوقائع والحقائق بالقوة على الأرض،عبر "تسونامي" استيطاني يلتهم مدينة القدس،ويسرع في تهويدها وأسرلتها،ويعزلها عن محيطها الفلسطيني،بقلب واقعها الديمغرافي،عبر توسيع مساحتها،وضم الكتل الإستيطانية جنوبها وشرقها الى سلطة بلديتها،لتصبح مساحتها 10% من مساحة الضفة الغربية،وبما يضخ 150 ألف مستوطن اليها ويخرج أكثر من 100 ألف مقدسي من حدود بلديتها بالإنفصال عن القرى والبلدات الفلسطينية المقدسية خارج جدار الفصل العنصري،وكذلك تكثيف الإستطيان وتصعيده في الضفة الغربية لخلق دولة للمستوطنين فيها،تمهيداً لضمها لدولة الإحتلال،كما يخطط لذلك أقطاب اليمين الصهيوني المتطرف نتنياهو– نفتالي وليبرمان،ولعل المشروع الإستيطاني الأخطر والمتمثل بالبناء في المنطقة المسماة ب(E1) وطرد التجمعات البدوية من تلك المنطقة،بهدف تقطيع اوصال الضفة الغربية وعزل شمالها عن جنوبها،وبما يمنع ويلغي الحل القائم على أساس الدولتين بشكل نهائي.

بعد ثلاثون عاماً على انتفاضة الحجر التي فشلنا فيها في نقل شعار الدولة الفلسطينية من الإمكانية التاريخية الى الإمكانية الواقعية،واضح بأن حلمنا في تحقيق ذلك يتباعد،حيث الحالة الفلسطينية الضعيفة والمنقسمة على ذاتها سببٌ مباشر في ذلك،وكذلك قياداتنا بكل الوان طيفها ليست على مستوى التحديات والمسؤوليات،تغلب مصالحها ومكتسباتها وإمتيازاتها الفئوية والحزبية على المصالح العليا للشعب الفلسطيني،والحل كل قوانا وفصائلنا تدركه جيداً،ولكنها لا تعمل على ترجمته الى فعل على أرض الواقع،فلا انتصار بدون انهاء الإنقسام واستعادة الوحدة الوطنية على اساس برنامج سياسي واستراتيجية موحدتين،وخصوصاً ونحن نشهد مدى الإيغال الأمريكي في العداء والتنكر لحقوق شعبنا الفلسطيني،بإنتقال الإدارة الأمريكية الحالية من الإنحياز التاريخي لصالح الإحتلال ومشروعه الصهيوني الى مشاركته العدوان على شعبنا وحقوقنا وأرضنا عبر الإعتراف بعاصمتنا المحتلة القدس،عاصمة أبدية لدولة الإحتلال،في تطور غير مسبوق من البلطجة والتعدي على حقوق الشعوب المقهورة.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق