لوركا: شاعر إسبانيا القتيل في شعر السيّاب والبياتي ومحمود درويش/ د. عدنان الظاهر

  فيديريكو غارسيا لوركا شاعر إسباني متميز قتله الحرس الأسود الفاشي عام 1936 وهو في الثامنة والثلاثين من عمره في غرناطة آوائل الحرب الأهلية ( 1936 – 1939 ) التي قاد الثورة المضادة فيها الجنرال فرانكو إذ نجح في عبور مضيق جبل طارق من جهة المغرب يقود أربع فرق عسكرية وكان يقول لديَّ هناك داخل إسبانيا طابور خامس. من فرانكو جاء هذا المصطلح الذي أصبح شهيراً في عالمي السياسة والحرب.كان لوركا محسوباً على اليسار السياسي وكان معادياً للدكتاتورية. أشهر أعماله مسرحية " عُرُس الدم " . تميّز بطريقة جديدة في كتابة الشعر تمتزج فيها رمزية وسوريالية شعراء عشرينيات القرن الماضي الفرنسيين المعروفين مع أسلوب كتابة الحكايات التراثية الشعبية الأندلسية.كما كان له هوى خاصاً بتراث وأغاني غجر الأندلس. 
كتب عن لوركا ثلاثة من الشعراء العرب المعاصرين وهم حسب أقدمية تواريخ كتابتهم لقصائدهم الشاعر العراقي المرحوم بدر شاكر السياب والمرحوم عبد الوهاب البياتي 
( عراقي ) وأخيراً الشاعر الفلسطيني محمود درويش. ينتمي هؤلاء الشعراء الثلاثة من حيث الشكل ( الظاهر ) إلى مدرسة كتابة الشعر بأسلوب التفعيلة أو ما يسمى بالشعر الحر حاملين طبائع ما يحمل هذا الشكل من حسنات وعورات قسمةً مشتركة فيما بينهم جميعاً. لكنهم يمثلون ثلاث مدارس متباينة في أساليب التعبير عن المضمون ( الباطن ). إذ 
لكل منهم عالمه الخاص وروحه المتميز وثقافته الشخصية وعمق ( غاطس ) شاعريته ثم قوة المحفز والدافع للكتابة حول هذا الموضوع.
لم يكتب الشاعر السوري أدونيس عن لوركا أبداً، أولم أجد في ما لديَّ من مجموعاته
الشعرية شيئاً من ذلك. كذلك لم يكتب نزار قباني رغم أنه كتب شعراً كثيراً حول نساء الأندلس وغرناطة والحمراء ومدريد وآخر أمير حكم غرناطة.  
ما الذي أغرى هؤلاء الشعراء في أنْ يكتبوا مراثيَ أو سواها في أو عن هذا الشاعر الإسباني ؟ ما الذي يجمعه بهم أو يجمعهم به ؟ ما هي أوجه الشبه أو القواسم المشتركة فيما بينهم سواء من حيث السيرة الذاتية أو المنهج السياسي أو أساليب وتقنيات كتابة أشعارهم ؟ أسئلة كثيرة مُعقدة سأحاول أن أجد لها حلولاً او أجوبةً مناسبة بدراسة ثم تحليل وإستقراء أشعار هؤلاء الشعراء الثلاثة لعلني أُوّفقُ في بلوغ ما أصبو ويصبو القاريء إليه. 

                                    بدر شاكر السياب  
           
                 ( ديوان بدر شاكر السياب/ دار العودة، بيروت 1971 ) 

غارسيا لوركا

كتب السياب قصيدة " غارسيا لوركا " ونشرها ربما لأول مرة في ديوانه " أُنشودة 
المطر " فجاءت كأنها مرآة تعكس أجواء عالم المطر السيابي الرمزي. نقرأ فيها المطر وما يرافق المطر من طوفان ثم الأشرعة وزوارق الأنهار والمغامر المكتشف كولومبس يمخر العباب. ثم نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام تشنجات وتوتر أعصاب السياب الشديد حين يلتحم مع ظواهر الطبيعة القاسية إلتحاماً كما يلتحم المعدن بالمعدن في كل سطر من أسطر القصيدة العشرين. لكأنما يجبر الطبيعة أن تشاركه عالمه الشعري ستاراً مباشراً مرةً يفهمه القاريء بيسرٍ، أو رمزاً أو صورةً معقدة تضطر القاريء أن يعمل فكره وأن يقلّب الأمر وأن يجد التأويلات المناسبة التي قد لا تُرضي الشاعر. القاريء شيء والشاعر شيء آخر. لماذا يلتجيء السياب إلى ظواهر الطبيعة الكونية الشرسة والعنيفة ؟ هل يجد فيها متنفساً وتعويضاً عما يعاني في داخله من ضعف وخوف ومرض ووهن؟ لقد وظّفَ التنور والنار والجحيم والفوران والطوفان والشرر واللظى والقدح والمُدية ( مُدى ) والحجر والفعل مزّق واللون الأحمر ثم الدم ( النجيع ). ثلاث عشرة مفردة تدل على العنف والقسوة والتحدي إستخدمها السياب في هذه القصيدة القصيرة. 
خلافاً للبياتي ودرويش،لم يذكر السياب في قصيدته إسم لوركا.كما أنه لم يذكر غرناطة ولا مدريد ولا إسبانيا. بلى، ذكر إسم العَلَم كولومبس فقط في معرض مقارنة شراع سفينته مع شراع زورق طفل في نهر. 
لنقرأ مع السياب :

في قلبه تنورْ
النارُ فيه تُطعمُ الجياعْ
والماءُ من جحيمهِ يفورْ :
طوفانهُ يُطهّرُ الأرضَ من الشرورْ
ومقلتاهُ تنسجانِ من لظىً شراعْ
تجمعان من مغازل المطرْ
خيوطه، ومن عيونٍ تقدحُ الشررْ
ومن ثُديِّ الأمهاتِ ساعةَ الرضاعْ
ومن مُدىً تسيلُ منها لذّةُ الثمرْ
ومن مُدىً للقابلاتِ تقطعُ السُرَرْ 
ومن مُدى الغُزاةِ وهي تمضغُ الشعاعْ
شراعهَ النديَّ كالقمرْ 
شراعهَ القويَّ كالحجرْ
شراعهَ السريعَ مثلَ لمحةِ البصرْ
شراعهَ الأخضرَ كالربيعْ
الأحمرَ الخضيبَ من نجيعْ
كأنه زورقُ طفلٍ مزّقَ الكتابْ
يملأُ مما فيهِ بالزوارق النهَرْ
كأنه شراعُ كولمبسَ في العُبابْ
كأنه القدرْ.

لوركا إذن وحسب رؤية السياب كالمسيح يطعم من جسده الجياع خبزاً (( والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم. من يأكل جسدي ويشربُ دمي فله حياة أبدية وأنا أُقيمه في اليوم الآخر. إنجيل يوحنا/ 51- 54 )). قلبه تنور أو فرن عصري لشواء الخبز. في قلب الشاعر القتيل نارٌ وفيه جحيم كجحيم الشاعر الإيطالي دانتي يفور منه الماء طوفاناً كطوفان نوح. جمع السياب الضدين في لوركا : النار والماء. النار تطعم جياع البشر خبزاً والطوفان يطهر نفوسهم من الشرور. حتى الآن كلام الشاعر واضح ليس فيه أي تعقيد. بعدذلك مباشرةً  يأتي التعقيد وإدغام الأفكار والمعاني والتقديم والتأخير فيسرح الشاعر مع شتى الخواطر والفكر. عيون لوركا تنسج شراعاً من لظى. وتجمع خيوط هذا الشراع من قطرات المطر المتساقط ومن … ومن… بحيث أنَّ السياب يتيه ويجعلنا معه نتيه في سياحة غير منضبطة ويسرح في تجوال يجمع فيه أحوالاً لا رابط بينها يربطها. كيف يجمع الشاعر خيوط شراع من أثداء الأمهات الرواضع ومن سكاكين قطع الفاكهة ومشارط القابلات لقطع الحبل السري ومن مُدى الغزاة التي تمضغ الشعاع؟
بعد هذا التطواف الذي يشبه كثيراً سياحة الماشي في نومه ينتبه الشاعر فيصحو متذكراً عيون لوركا التي تنسج شراعاً. وحين يؤوب إلى موضوع الشراع يسوح كرّةً أخرى فيسرف قليلاً في وصف هذا الشراع العجيب، فهو ندي كالقمر وقوي كالحجر وسريع مثل لمح البصر، مرة أخضر كالربيع وأخرى أحمرَ من نجيع. وحين يحس الشاعر بالضنى بعد كل ما بذل من طاقة ومن جهد وبعد أن تتقطع أنفاسه اللاهثة في صدره العليل المُتعب يغير الجو ويبدّل ذبذبة فيضه الروحي فينتقل إلى عالم الطفولة واللهو مع زوارق الورق تطفو على سطوح الماء الذي لا يفارق أشعاره. ثم يجرّه ماءُ النهر بوعي أو بدونه إلى عالم الماء الأكبر : عُباب البحار ومخاطر الخوض في هذا العالم.
هل جمع لوركا فيه كل هذه المتناقضات ؟ لا أحد يعرف الجواب.كان يحب المسرح والغجر وكان طبعُ غريزته الجنسية منحرفاً وكان ثوريا لكنه لم يحمل السلاح دفاعاً عن الجمهورية الديمقراطية ضد كتائب فرانكو.كيف جمع السيّابُ النارَ والطوفانَ والشررَ وسكاكين الغزاة مع حليب رضاعة الأطفال ولذة الفاكهة ونداوة القمر وخضرة الربيع وزوارق الطفولة البريئة ؟ جمع كل هذه الأضداد في عشرين سطراً. هذا هو السياب الشاعر – الإنسان كما هو بعالميه الباطن والظاهر، القبيح والجميل، المتدني والنبيل السامي، العنيف والهاديء المسالم.لم تترك هذه القصيدة في نفسي إنطباعاً يقول إنَّ السياب ( يتشبّهُ ) بلوركا أو يسقطه على نفسه أو إنه يتمنى أن يموت يوماً كما مات لوركا شهيداً يسارياً مناضلاً من أجل الحرية. كان لوركا إنساناً عادياً وشاعراً مرموقاً وما كان مسيحاً ولا كان إلهاً يُطعمُ البشرَ خبزاً ويطهرهم من آثامهم وأن عيونه تجبلُ من  حليب الأمهات خيوطاً تنسجها شراعاً ندياً قوياً سريعاً أخضرَ لزوارق الأطفال الورقية ثم لشراع سفينة كولومبوس. قد نفهم فكرة الشراع رمزاً وعلماً لقيادة جماهير الناس نحو هدف محدد، أو رمزاً لحرية نشر قلوع السفن والإبحار في عرض المياه المجهولة تحدياً للأقدار وسعياً لإكتشاف المجهول. هو مرة هكذا، لكنه سرعان ما ينكص ويرتد مُغيّراً طبيعته فيتحول إلى مجرد شراع لسفائن الطفولة الورقية حيث لا مغامرة في مجهول ولا محاولات إكتشاف قارات جديدة.
ما الذي حمل السياب على أن يكتب هذه القصيدة ؟ ربما لأنه وجد قبله من بين الشعراء الإنجليز على وجه الخصوص من كتب في هذا الموضوع. الإبداع وعشق الحرية ثم الشهادة، تلكم أمور تغري الشعراء في أن يخوضوا في لججها.
القصيدة، في نظري، مبالغات كاريكاتورية وتراكيب وبُنى فكرية هندسها الشاعر تجريداً  وفذلكات لفظية طنّانة محكمة الرصف والصف وصور تم تحميضها وطبعها في رأس السياب لا في أعماق روحه.لم أجد فيها شيئاً من ( روح ) السياب التي خصّها به الناقد فوزي كريم وتكلّم عنها مطوّلاً وبإسهاب وطول نفس يُحسد عليه. (( ثياب الإمبراطور/ دار المدى للثقافة والنشر. دمشق 2000 ))

              عبد الوهاب البياتي 
    ( ديوان عبد الوهاب البياتي/ المجلد الثاني، دار العودة، بيروت الطبعة الرابعة 1990 )

                                   مراثي لوركا 
هذا هو عنوان قصيدة البياتي في لوركا، وهي تتألف من ستة مقاطع شغلت ست صفحات من الديوان.كالسياب، يتخذ البياتي في نظمه إيقاع التفعيلة ويُسكّن آواخر السطور ويُضطرُ أحياناً إلى إسقاط بعض الحروف حتى يحافظ على نغمة الإيقاع. جرى  البياتي هنا مجرى عادته الطاغية على أغلب شعره حيث درجَ على أن يمزج فيه الحقيقة بخيال الخرافات والأساطير وحكايا جداتنا وهن يسامرن الأطفال قبل ساعة النوم. وهو في شعره لا يسرف ولا يغالي في الإتكاء على ظواهر الطبيعة أو التورط في إستغلال تداعيات ومدلولات هذه الظواهر. لكنه من الجانب الآخر يُفرِط في ذكر أسماء الأعلام والمدن والبلدان التي زارها أو قرأ عنها. كما أنه لا يجد حرجاً في تكرير بعض مفردات الشتيمة والسباب المُقذع مثل العوران والخصيان والمخانيث وما إلى ذلك. إنه كالمتنبي هجّاء ممتاز.
كالسيّاب،لم يذكر البياتي في قصيدته إسم لوركا لكنه ذكر إسبانيا مرةً واحدةً وذكر غرناطة ثلاث مرات، علماً أنه كتب قصيدتين أُخريين الأولى بإسم " الموت في غرناطة "  في حين حملت الثانية عنوان " النور يأتي من غرناطة ". ذكر في الأولى أسماء عائشة وشهيد كربلاء الحسين بن علي والعذراء ثم لوركا الذي قال عنه (( وصاح في غرناطةٍ معلّمُ الصبيان… لوركا يموتُ، ماتْ… أعدمه الفاشستُ في الليلِ على الفراتْ ))... الأمر الذي لم يقله عنه في مراثيه. في هذه القصيدة رسم البياتي وهيأَ المناخ المناسب لنهر الفرات أن يكون مناسبةً ومكاناً للجمع بين الحسين ولوركا. سقطا شهيدين على ضفاف هذا النهر !! أما في القصيدة الثانية فقد ذكر غار حِراء ودار وحيداً حول الله ثم ذكر غرناطة وقصر الحمراء دون أن يذكر إسم لوركا. 
إذا لم يتطرق السياب في قصيدته إلى ذكر الحيوان وعالم الحيوان فإنَّ البياتي ذكر أسماء عشرة من الحيوانات هي الثور والأيّل والخنزير والنسر والدود والجواد والخيول والعنقاء والفيران والببغاء والزواحف. كما أنه قارب عالم المرأة فذكرها بأجمل النعوت من قبيل :
المليكة والأم والغادة والأميرة وعشيقة السلطان ثم الإسم الأثير لديه " عائشة "، عائشة عمر الخيام. 
أستطيع أن أُسمّي المقطع الأول الذي شغل أقل من صفحة " مقطع الموت "… فقد ذكر البياتي الموتَ أربع مرات، علماً أنه يتكون من ثلاثة عشر سطراً فقط. وإنه لرقمٌ مشؤوم ! 
وبالمناسبة… تتردد كلمات الموت والنور والنار بكثرة في أشعار البياتي، وتلك ظاهرة تستحق المتابعة والدراسة. 
ماذا عسانا واجدين في مقطع الموت إنْ قمنا بسياحةٍ خلال سطوره ؟ 
(( يبقرُ بطنَ الأيّل الخنزيرْ
يموتُ " أنكيدو " على السريرْ
مبتئساً حزينْ
كما تموتُ دودةٌ في الطينْ ))
(( لن تجدَ الضوءَ ولا الحياةْ
فهذه الطبيعةُ الحسناءْ
قدّرت الموتَ على البشرْ
وإستأثرت بالشعلة الحيّةِ في تعاقب الفصولْ
ماذا لموتي آهِ يا مليكتي أقولْ ؟ ))

الخنزير يقتل حيواناً مسالماً جميلاً ( إعتداء )، ويموت أنكيدو، صديقُ ونِدُّ جلجامش في الملحمة السومرية الشهيرة، موتاً سريرياً كما يقول الأطباء. البياتي يضعنا في أجواء هذه الملحمة الأسطورية مستعيراً جملة كاملة منها (( قدّرت الموت على البشر )) كما جاءت محفورةً في ألواح الطين أو في الصخر في مدينة أُوروك ( الوركاء ) جنوب العراق. قالت صاحبة الحانة " سيدوري " الساكنة عند ساحل البحر لجلجامش : 
(( إلى أين تسعى يا جلجامش
إنَّ الحياة التي تبغي لن تجد
حينما خلقت الآلهةُ العظامُ البشرَ
قدّرت الموتَ على البشرية
وإستأثرت هي بالحياة )).
(( طه باقر/ ملحمة جلجامش، الصفحة 142 . دار المدى للثقافة والنشر. بيروت 2001 )).
أنكيدو هذا قتل قبل موته مع صديقه جلجامش الثور السماوي الذي طلبته عشتار من أبيها " آنو " كي يقتل جلجامش ويهلكه لأنه أهانها وثلم شرفها.
إلتفاتة بارعة إذ سيعود البياتي لنوع آخر من الثيران، ثيران المصارعة الإسبانية ما دام الكلام عن شاعر إسباني قتيل، ومصير ثيران المصارعة ليس إلاّ القتل كما هو معروف، إمّا قاتلٌ أو مقتولٌ. الثور السماوي قتله ملك جبّار غاشم.كذلك لوركا قتله جنرال دكتاتور فاشي قاد إنقلاباً أسودَ أغرق إسبانيا بالدماء. أنكيدو وجلجامش قتلا حيواناً مرسلاً من السماء وفرانكو قتل إنساناً شاعراً قريباً من السماء. أليس الشعراء أنبياءً ؟ 
نعمْ، إنها كذلك لإلتفاتة شديدة البراعة. أراد البياتي أن يقول – كما قد أحسب – أن مصارعة الثيران عادة أو هواية أو رياضة أو جبلّة قديمة مارسها الإنسان في سومر جنوبي العراق قبل خمسة آلاف عام. إذا لم يقتل الإنسانُ أخاه الإنسانَ ( قابيلُ قتل أخاه هابيل ) فلا بأس أو لا مندوحة من قتل حيوان بريء. المهم هو سفح الدم والغرام العنيف برؤية منظر هذا الدم المسفوح.كان الكنعانيون وبعض الشعوب الأخرى في فلسطين يذبحون أطفالهم البكور تقدمةً لآلهتم فتعلّم إبراهيم الخليل منهم وحذا حذوهم حين أقام بجوارهم فعزم على ذبح ولده ( إسماعيل أو إسحق ) غير أن الرب قدّم له كبشاً بديلاً عن إبنه… كما تقول التوراة وحسبما ورد في القرآن الكريم (( فلمّا بلغَ معه السعيَ قال يا بُنيَّ إني أرى في المنامِ أني أذبحُكَ فأنظرْ ماذا ترى قال يا أبتِ اْفعلْ ما تؤمرُ بهِ ستجدُني إنْ شاءَ اللهُ من الصابرينْ. فلمّا أسلما وتلّهُ للجبينْ. ونادينا أنْ يا إبراهيمُ. قد صدّقتَ الرؤيا إنّا كذلكَ نَجزي المُحسنينْ. إنَّ هذا لهوَ البلاءُ المُبينْ. وفدّيناهُ بذِبحٍ عظيمْ. سورة الصافّات / الآيات 102 – 107 )).  
يخصص البياتي المقطع الثاني للكلام عن مدينة غرناطة، مسقط رأس لوركا. يُشير إليها دون أن يسميها :
(( مدينةٌ مسحورةْ
قامت على نهرٍ من الفضةِ والليمونْ 
لا يولدُ الإنسانُ في أبوابها الألف ولا يموتْ
يحيطها سورٌ من الذهبْ
تحرسها من الرياحِ غابةُ الزيتونْ 
صحتُ على أبوابها الألف ولكنَّ النُعاسْ عَقَدَ الأجفانْ
وأغرقَ المدينةَ المسحورةْ
بالدمِ والدخانْ )). 

في هذا المقطع تختلط المدائن في لوحات البياتي ( وهذا دأبه أبداً ) فقرطبة لوركا تغدو أُوروك، المدينة التي قضى أنكيدو فيها نحبه. وما دمنا في أُوروك فما المانع من أن يستعير الشاعر شيئاً  من أجواء ملحمة جلجامش إياها ؟ قال البياتي عن المدينة المسحورة :

(( رأيتها والدودْ
يأكلُ وجهي وضريحي عَفِنٌ مسدودْ
قلتُ لأمّي الأرض : هل أعودْ ؟
فضحكتْ ونفّضتْ عني رداء الدودْ ))
هذا الدود الذي ذكره البياتي مرتين هو الدود الذي تجمّد على وجه أنكيدو بعد أن قضى نحبه. نقرأ على الصفحة 141 من الملحمة خطاب جلجامش عن أنكيدو:

(( إنه أنكيدو صاحبي وخلّي الذي أحببته حبّاً جمّاً
لقد إنتهى إلى ما يصيرُ إليه البشرُ جميعاً
فبكيتهُ في المساءِ وفي النهارِ
ندبتهُ ستةَ أيامٍ وسبعَ ليالٍ
مُعللاً نفسي بأنه سيقومُ من كَثرةِ بكائي ونواحي
وإمتنعتُ عن تسليمهِ إلى القبرِ
أبقيتهُ ستةَ أيامٍ وسبعَ ليالٍ حتى تجمّدَ الدودُ على وجههِ )). 

ظلّ البياتي يحلم بعودة الأندلس إلى العرب فعاد أو أعاد في عالم الأحلام نفسه إلى المدينة المسحورة قرطبة ( عُدتُ إليها يافعاً مبهورْ ، أعدو على ظهرِ جوادي الأخضرِ الخشب ).
لكنه حين أشرف على أبوابها وجدها غارقةً بالدم ودخان الحرائق.
لا أعرف متى كتب البياتي هذه القصيدة ( وهي جزء من ديوان " الموت في الحياة " )، فالمدن والأسماء والشخصيات التأريخية تختلط في عوالمه ورؤاه الشعرية، أعني أنه ربما قصد بالجملة الشعرية الأخيرة ( وأغرق المدينة المسحورة بالدم والدخان ) مدينة عربية أخرى : بغداد الإنقلابات والتقلّبات أو بيروت الحروب الأهلية  أو القاهرة أثناء حرب الأيام الستة في عام 1967 أو ربما سواها من المدن العربية. أفضل مثَلٍ على هذا التخليط الناجح أجده في إسراف البياتي في خلط إسم وشخصية عائشة وجعله يتنقل بين الحِقب والتواريخ والعصور والأزمنة ثم النساء. فمرّةً هي عشتار البابلية أو السومرية ومرة هي سمير أميس الآشورية أو ليلى ومرّةً أخرى هي واحدة من النساء اللواتي إلتقاهن في موسكو أو سواها من العواصم ( في موسكو يفضّل إسم لارا وقد ورد مِراراً في أشعاره )، وقد تكون إحدى زوجات الفرعون خوفو، لكنها أولاً وآخراً ليست إلاّ عائشة عمرالخيام، زوجته أو حبيبته. في فكر البياتي فلسفة مؤداها أنّ المرأة هي حواء ثم هي إبنة حواء. والمرأة هي هي وإنْ بدّلت إسمها وتبدلت أدوارها في الحياة سواء أكانت كليوباترا المصرية أو الإمبراطورة 
الروسية كاترينا أو الملكة البريطانية فيكتوريا أو إمرأة عاملة بسيطة…مهمتها الأساسية إعادة دورة الحياة بالإنجاب. إبنة الطبيعة تعيد الطبيعة البشرية بإستمرار، تلعب وتعيد دور الأم. ثم إذا كانت الأرض أمّاً فلِمَ لا تكون المدينة ( أوروك أو قرطبة ) أُمّاً ؟ وقد قالها البياتي صريحةً (( قلتُ لأمي الأرض : هل أعود ؟ )). لقد فسّر مفسرو القرآن الكريم لفظة الأم التي وردت في الآية (( ومن خفّت موازينه فأمهُ هاوية )) بأنها تعني الأرض.  

في المقطع الثالث تتحول غرناطة المدينة المسحورة إلى ( غادة مضواع )، إلى سيدة فاتنة جميلة تلبس أقراط الأذنين وتتجمل وتتعطر ( بماء ورد النار وقطرات مطر الأسحار ). مدينة خيالية أو خرافية أو أُسطورية فهي مجازاً طيّارة ورقية يلهو بها الأطفال ترتفع في الفضاء مشدودة بخيط من نور، أي أنَّ الرب حاميها من ضعف آخر أُمرائها الشاب أبي عبد الله الصغير. غرناطة البراءة هذه كانت تتوقع أن تأتيها كتائب الحرس الأسود لتغرقها بدماء  لوركا وغير لوركا من بقية أبنائها المدافعين عنها :
(( تُشيرُ في خوفٍ إلى كثبانها السوداءْ 
فمن هناك الأخوةُ الأعداءْ
جاؤوا على ظهرِ خيولِ الموتْ
وأغرقوا بالدمِ هذا البيتْ )). 

في المقطع الرابع ينسى البياتي غرناطة المدينة المسحورة فينصرف مأخوذاً إلى وصف واحدٍ من مشاهد مصارعة الثيران المعروفة في إسبانيا. لقد سبق وأن مهّد الشاعر لذلك في المقطع الأول، فلقد ذكر أنكيدو قاتل الثور السماوي. في هذا المقطع نرى أنكيدو لا جسداً بارداً طريح فراش الموت بل إنساناً معدّاً إعداداً جيداً لمصارعة الثيران. لكن مع فارق جدَّ كبير : يطعن الفارسُ غريمَه البهيمة طعنةً غير قتّالة، لكنه هو، الفارس أنكيدو، من يخسر المبارزة في نهاية المطاف إذ يسقط قتيلاً مضرجاً بدمائه الساخنة. الثور يخور جريحاً في الساحة وسط تهريج جمهور المتفرجين. هل سقط الثور كالفارس المصارع قتيلاً ؟ السطر الأخير في هذا المقطع لا يفصح عن ذلك صراحةً (( والثورُ في الساحةِ مطعوناً بأعلى صوتهِ 
يخور )). فالفعل يخور قد يعني الخوَر ( تخور قواه فيسقط على الأرض حيّاً لكنْ منهوك القوى أو أن يسقط ميتاً ) وقد يعني الخُوار ( خوار الثور، مثل عواء الكلب ومواء القطط…). في وسط هذا المقطع نقرأ (( فمانِ أحمرانِ فاغرانْ )) وهي إشارة واضحة تدل على سقوط كلٍّ من الفارس والثور الخصم قتلى. 
هل يجوز لي أن أُطلق على هذا المقطع إسم ( مشهد مصارعة الثيران ) ؟ وهل يجوز لي أنْ أقترح حذف هذا المقطع من مجمل القصيدة المكرّسة أصلاً للشاعر الفذ لوركا ؟ أُرجّحُ بقاء المقطع كما هو، فلوركا إبن إسبانيا وإسبانيا أرض مصارعة الثيران العنيفة التي تسيل فيها دماء الثيران أو الفرسان أو كليهما أحياناً. أراد البياتي أن يقولَ إن بلداً كهذا وإن أرضاً كهذه وإنَّ شعباً كهذا مُهيأةٌ بطبيعتها لوقوع كارثة إنقلاب الردة الدموية التي وقعت عام 1936 وكان من أبرز ضحاياها الشاعر فيديريكو غارسيا لوركا. اللوحة تمثّلُ خلفيةً ممتازة وتمهيداً لما وقع وكان البياتي بحق بارعاً في رسم صور مشهد مصارعة الثيران. يُخيل لي أن البياتي أفاد كثيراً من رسوم لوحة الرسّام الإسباني بيكاسو الشهيرة (غيورنيكا ) التي خلّد فيها بالأسود والأبيض مأساة مدينة غيورنيكا التي دمرتها الطائرات الألمانية خلال الحرب الأهلية إياها التي أشعل فرانكو فتيل حرائقها. لقد أعان بذلك هتلر قرينه الجنرال  فرانكو. في هذه اللوحة يقف ببرود ثور كبير مثل ثيران المصارعة كأنه خرج لتوّهِ منتصراً 
وسط وضعٍ متوتر مشحون بأجواء الموت والخراب والدمار. سيف مكسور وأصابع مقطوعة ورؤوس مشوّهة وأم تحمل طفلاً تبحث عن الأمل والخلاص في بصيص من ضوءِ مصباحٍ معلّق فوق الرؤوس. هل هذا الثور البارد الأعصاب هو الجنرال الدموي فرانكو بعينه ؟ الثور الذي فاز بمعركة الصراع وخرج منتصراً على شعب بأكمله بعد أن أغرقه بالدماء والموت والحرائق. أين مكان الشاعر لوركا في هذه اللوحة ؟ أين لوركا صاحب مسرحية ( عُرُس الدم ) ؟
نقرأ بعضاً مما جاء في مقطع مصارعة الثيران :

(( ثورٌ من الحريرِ والقطيفة السوداءْ
يخورُ في الساحةِ والفارسُ لا يراهْ
قرناهُ في الهواءْ
يطاردانِ نجمةَ المساءْ
ويطعنان الفارسَ المسحورْ
ها هو ذا بسيفهِ المكسورْ
مُضرّجٌ بدمهِ في النورْ
فمانِ أحمرانِ فاغرانْ
شقائقُ النعمانْ
على سفوحِ جبلِ الخرافةْ
دمٌ على صفصافةْ
- أيتها النافورةُ الحمراءْ
أسواقُ مدريدَ بلا حنّاءْ
فضمّخي يدَ التي أُحبها بهذه الدماءْ
يا صيحةَ المهرّجِ، الجمهورْ
ها هو ذا يموتْ
والثورُ في الساحةِ مطعوناً بأعلى صوتهِ يخورْ )).

وبعد، ماذا عسانا واجدين في المقطعين الأخيرين الخامس والسادس ؟ لا شيءَ يستحق الذكر… تقريباً. في الخامس إعادة لبعض ما جاء في المقطع الثالث : غرناطة الطفولة السعيدة أو الخضراء ثم الطيارة وخيط النور الذي يهتزُّ في السماء. خلاف ذلك فقد أقحم البياتي أموراً إقحاماً مصطنعاً لا لشيء إلاّ لتغيير الأجواء وتمتين نص المقطع ( الخامس ) وتحسين طعمه بإضافة بعض التوابل وتجميل صورته بالأصباغ والألوان إذ حوّلَ المدينة المسحورة غرناطة، الطيّارة التي سقطت في خنادق الأعداء، إلى جارية تباع في أسواق النخاسة لكنها الآن تحمل الأسم الأثير لديه : عائشة، ثم طائر العنقاء الذي يقوم حيّاً من رماده. ثم ينتقل إلى وطنه العراق (بابل ) فيذكر أميرةً أسيرة فيه لعلها عشتار أو سمير أميس، الأميرة التي جاءوا بها من المدن الجبلية في الشمال وإبتنوا لها جنائن بابل المُعلّقة.
لقد خالف مطلع هذا المقطع منطق سياق القص في المقاطع السابقة حيث رأينا لوركا ميتاً كما أنكيدو، ورأيناه فارساً يصارع ثوراً فيسقط أمامه قتيلاً فكيف يعود إلى الحياة مقاتلاً حتى الموت من شارع لشارع ليزرع الأوغادُ الخناجرَ في جسمه لتسقط غرناطة بعيد ذلك مباشرةً ؟ أهي أُسطورة طائر العنقاء الذي ذكره في هذا المقطع ؟ يبقى الشاعر في لوركا ويبقى لوركا الشاعر حيّاً متجدداً أبداً والشهداء لا يموتون بل يبقون أحياءً  يُرزقون ؟ 
إذا كرر البياتي في المقطع الخامس بعض ما جاء في المقطع الثالث من هذه القصيدة فلماذ أعاد في قصيدة ( ديك الجن ) ثلاثة أبيات سبق وأن قالها في المقطع الأول من مراثي
لوركا ؟ أعني قوله حرفياً :
(( فهذه الطبيعةُ الحسناءْ
قدّرت الموتَ على البشرْ
واستأثرتْ بالشعلةِ الحيةِ في تعاقب الفصولْ )).
إذا قتل الشاعر ديك الجن حبيبته وأحرق جثتها في ساعة سكرٍ وجبل من رمادها كأساً
لشرابه فإن لوركا ما كان حبيباً ولا كان أثيراً لدى قاتله فرانكو كما هو معلوم.لم يُحرقْ جثمانُه ولا أحدَ يعرف أين تمَّ دفن جسده وتحت أية تربةٍ في غرناطة. إذن لا سبيلَ للمقارنة أو المقابلة بين الواقعتين. قصيدة ( ديك الجن ) جاءت في الديوان بعد مراثي لوركا مباشرةً. 
مرّةً أخرى، نواجه فلسفة البياتي وإيمانه القوي الراسخ أنَّ بعض مظاهر الطبيعة ووقائع الحياة تتكرر بهذا الشكل أو بذاك. النتيجة واحدة وإنْ تعددت وتنوّعت الوسائل والتفصيلات. فكما أنَّ عائشة تبقى عائشة، المرأة حواء وإبنة حواء بصرف النظر عمّا تقوم به من أدوار.كذلك الموت، يبقى موتاً مهما تعددت سبل تنفيذه، سواء جاء نتيجة طعنة سيف أو خنجر أو جاء نتيجةً لطعنةٍ بقرن خنزيرٍ أو ثور أو بإطلاقة حرسٍ فاشيٍّ أسود أو بشظية قنبلة مدفع أو برصاصة عدو في إحدى جبهات القتال أو أن يموتَ الإنسانُ حتف أنفه في بيته على سرير نومه أو على سرير أحد المستشفيات. وعليه فإنّ الموت هو سرير واحد يضطجع عليه مناصفةً كلٌّ من لوركا القتيل وعشيقة ديك الجن القتيلة. 
أفلم يقل شاعر مجهول :
                                 ومن لم يمتْ بالسيفِ مات بغيرهِ
                                 تعددت الأسبابُ والموتُ واحدُ
وقال أبو الطيب المتنبي :
                               فطعمُ  الموتِ  في أمرٍ حقيرٍ 
                               كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ

يتكلم البياتي في المقطع الأخير وهو السادس عن المدن التي أخلفت المدينة المسحورة غرناطة. إنه يضع المدن الأكثر سوءاً في مقابل المدن الأكثر نقاءً وجمالاً. فمدريد أضحت عاصمة الديكتاتور فرانكو بعد أن سقطت مدينة النور غرناطة. مدريد التي إنبطحت أمام جحافل الفاشيست أصبحت مدينة ( الضرورة ) التي تقرض الفئرانُ فيها الرجال الذين يتشوهون ويتلوثون لا محالةَ في أوساخ مثل هذه المدن وبما أتى به الطوفان من أعراف
وتقاليد لا تمتُّ بصلةٍ لأعراف وتقاليد مدينة النور المسحورة. لقد قابل المدينة الرأسمالية الجديدة مدريد برمزٍ لمدينة وحضارةٍ كانت تسير في الطريق لبناء الإشتراكية، وكان لوركا محسوباً على اليسار الإشتراكي. 
في هذا المقطع يتلمس المرء خيوطاً ضعيفة متأثرة بما كتب الشاعر الإنجليزي توماس إليوت في قصيدته الشهيرة ( الأرض الخراب )  The Waste Land .

                        محمود درويش
 ( ديوان محمود درويش/ دار العودة، بيروت، الطبعة الثالثة 1971 )

                     لوركا
لوركا هو عنوان قصيدة محمود درويش، كلمة واحدة فقط، كلمة بسيطة. القصيدة تنتشرُ على أربع صفحات صغيرة ( نفس قياس صفحات ديوان السياب ) جعل الشعر فيها على شكل رباعيات ذكر فيها مدريد مرتين ولوركا ثلاث مرات وكذا ذكر إسبانيا ثلاث مرّاتٍ. وكسابقيه الشاعرين إلتزم درويش إيقاع التفعيلة ودرج مثلهما على الوقوف على القوافي وآواخر الأبيات أو السطور إلاّ فيما ندر من الحالات. 
هل ظلمتُ الرجل إذ وضعته في صف واحدٍ وعلى منصّة واحدة من حيث الإرتفاع عن مستوى الأرض مع السياب والبياتي لأقارن بين ما قال هو وما قال الشاعران الآخران حول موضوع واحد ؟ الجواب كلاّ. الغريب – وما أكثر الغرائب في الحياة – إني كنت قبل أن أدرس قصيدتي السياب والبياتي شديدَ الإعجاب بقصيدة محمود درويش. نعم، وبقيتُ كذلك بعد أن فرغت من دراسة هاتين القصيدتين. وجدته يتخذ لنفسه في هذه القصيدة مكاناً لائقاً في ذات الحافلة التي يستقلها مع السياب والبياتي. ولكي نتفهم قصيدته جيداً علينا أن نفهم أنَّ ظروفه وتكوينه وثقافته تختلف بشكل جوهري عن ظروف وتكوين وثقافة الشاعرين الآخرين. ما كان عليلاً ومنبوذاً ومحُارباً في رزقه ولقمة أطفاله وقبيح الصورة كالسياب الذي كان أشدهم معاناة وأكثرهم بؤساً في حياته القصيرة. ولا كان فقيراً مُدقِعاً شديد التلوّن السياسي كالبياتي الذي ذاق الحالين في حياته الطويلة : المُرَّ في موسكو والحلو في القاهرة ومدريد وعمّان ثم دمشق حيث يرقد جثمانه تحت ثراها.
 لقد رأى كلٌ منهم شيئاً من لوركا في نفسه أو رأى شيئاً من نفسه في لوركا. ثلاثتهم شعراء إنخرطوا بهذا الشكل أو ذاك في العمل السياسي وتحمّلوا جرّاء ذلك ما تحمّلوا من فصل من الوظائف وتشرّدٍ وحرمان ومنافٍ. لكن يظلُ درويش متميزاً بأمور كثيرة أخرى تباعد ما بينه وبينهما. فهو ربيب حيفا المُترف وشاعر فلسطين المبرِّز ومدلل الشعراء العرب والنخبة العربية المثقفة، وهوالمناضل الثابت من أجل فلسطين سياسةً وعقيدةً.لم ينقلبْ ولم يتلون ولم يتغير كما فعل صاحباه. عانى ما عانى في بيروت بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان. ثم أصبح بعد ذلك أحد الوجوه البارزة في منظمة التحرير الفلسطينية وسفيراً لفلسطين في باريس.كل هذه العوامل مجتمعةً تجعله مختلفاً عن صاحبيه في أسلوب التعامل مع موضوع تراجيدي معقد كموضوع مصرع لوركا. لا يقل عن ذلك أهميةً موضوع المرأة في أشعاره. فبيئته المنفتحة في حيفا وصداقاته المنوعة مع الجنس الناعم ثم إقامته الطويلة في بيروت ثم سفارته في باريس عاصمة الثورات والعطور والجمال والمتاحف والزهور والأناقة والترف الحضاري … كل هذه العوامل جعلت الشاعر دونما أدنى ريب مخلوقاً آخر يختلف جذرياً عن السياب الذي كان يشكو أبداً من الحرمان الجنسي وحين تزوج قرينته أم غيلان لم يعرف إمرأة أخرى سواها. وكذلك كان الأمر مع عبد الوهاب البياتي، فقد قضّى أعوام شبابه الباكر وأعوام الدراسة في دار المعلمين العالية دون أن يعرف طعم الحب أو الصداقة مع الجنس الآخر. في شعره نجد إشاراتٍ كثيرة عن الحب لكنها مجرد نظم وتلفيق ( وشطحات صوفية ) وبقايا أماني سنيِّ المراهقة. وحين إقترن بإبنة عمه أم علي لم يعرف إمرأةً سواها على الإطلاق. أردتُ أن أقول إنَّ روح وتربة وطينة محمود درويش ونشأته وبيئاته الرقيقة والناعمة والأرستقراطية أحياناً أعدّته لأن يكون شاعر رومانس وفتنة وجمال وغزل متميزاً ومتفوقاً على صاحبيه. هل من عجب حين نجد الشاعر يمزج هذه الأجواء المخملية بألفاظ العنف والخروج عن ( الأتيكيت ) الدبلوماسي الذي تعلّمه فيما بعد فأتقنه في باريس سفيراً لبلده فلسطين ؟ نقرأ في قصيدته ألفاظاً مثل الدم والزلزال والإعصار والرياح والزئير وتطاير أحجار الشوارع والنظر الشزْر والأسياف والجرح والإعدام. عاش وعايش درويش كارثة إحتلال فلسطين ومحنة شعبه تحت الإحتلال والتفرقة والتعسف. ترك أو أُجبرَ على ترك وطنه ليجد نفسه بعد ذلك في بيروت 
محاطاً بالدماء والخراب والقصف العشوائي والموت اليومي أثناء الإجتياح الإسرائيلي عام 1982. هل كان الشاعر يتنبأ بما سيقع في لبنان ساعات كتابته لهذه القصيدة فأفرغ فيها تفاصيل نبؤته وإختلط فيها الماضي الجميل العريق بالمستقبل المظلم الأسود حيناً والأحمر دماً أحيانا ؟ هذا ما حصل. نقرأ أغلبَ ما جاء في قصيدة " لوركا " لمحمود درويش :

(( عفوَ زهرِ الدم يا لوركا وشمسٌ في يديكْ
وصليبٌ يرتدي نارَ قصيدةْ
أجملُ الفرسانِ في الليلِ يحجّون إليكْ
بشهيدٍ وشهيدةْ.
هكذا الشاعرُ زلزالٌ وإعصارُ مياهْ
ورياحٌ إنْ زأرْ
يهمسُ الشارع للشارعِ قد مرّت خطاهْ
فتطايرْ يا حجرْ. 
هكذا الشاعرُ موسيقى وترتيلُ صلاهْ
ونسيمٌ إنْ هَمَسْ
يأخذُ الحسناءَ في لينِ إلهْ
وله الأقمارُ عُشٌّ إنْ جلسْ.
لم تزلْ إسبانيا أتعسَ أمِّ
أرخت الشعرَ على أكتافها
وعلى أغصانِ زيتونِ المساءِ المدلهمِّ 
علّقتْ أسيافها.
عازفُ الجيتارِ في الليلِ يطوفُ الطُرُقاتْ
ويغني في الخفاءْ
وبإشعاركَ يا لوركا يلمُّ الصَدَقاتْ
من عيون البؤساءْ .
العيون السودُ في إسبانيا تنظرُ شَزّراً
وحديث الحبِ أبكمْ
يحفرُ الشاعرُ في كفيهِ قبراً 
إنْ تكلّمْ.
نسيَ النسيانُ أنْ يمشي على ضوءِ دمكْ
فاكتستْ بالدمِّ بسماتُ القمرْ
أنبلُ الأسيافِ… حرفٌ من فمكْ
عن أناشيد الغجرْ
أجملُ البلدانِ إسبانيا، ولوركا يا صبايا
أجملُ الفتيانِ فيها
يا مغني النار وزّعْ للملايين شظايا
إننا من عابديها.

القصيدة واضحة تفصح بتواضع جمٍّ عن مضامينها. إنها خالية من بُنى السياب الفكرية المعقدة والتجريد والتضمين والتقديم والتأخير وشراع كولومبس. ولا نجد فيها إستطرادات البياتي وخلطه الأوراق المحكم وتهويماته الصوفية وإفراطه في الرمز والرجوع إلى التأريخ القديم سائحاً وبحّاراً ممتازاً. ليس فيها أنكيدو وعشتار وعائشة وأميرات بابل وصور مصارعة الثيران وقائمة الحيوانات الطويلة. لا شيءَ من ذلك فيها. إنها أُغنية تصدح بالنغم والإيقاعات التي تدخل النفس بسهولة وعفوية. يتكلم عن شاعر قتيل من خلال أجواء دينية مسيحية " الصليب " والتراتيل ثم يذكر الإله والموسيقى والحج والشهادة والصلاة والأقمار. أجواء وطقوس كنسية معروفة في البلدان المسيحية وكان لوركا مسيحياً في إسبانيا الكاثوليكية.لقد قاد فرانكو إنقلاب الردة الأسود بدعوى إنقاذ المسيحية الكاثوليكية من الإلحاد. ثم لا ينسى درويش وقد ذكر الموسيقى والتراتيل أن يذكر آلة العزف الإسبانية المشهورة " الجيتار" والغجر الذين يستخدمون هذه الآلة في غنائهم المرافق لرقصة " الفلامنكو " الأندلسية ذائعة الصيت. ثم تعود عروق محمود بالضرب على أوتار روحه وطبيعته الرومانسية فيذكر أجمل الفرسان والقمر – العُش والحسناء وحديث الحب وأجمل الفتيان وعطر زهر البرتقال.لم نجد هذه الأجواء الفارهة في قصيدة السياب لكن قد نجد القليل القليل جداً جداً منها في قصيدة البياتي.  
أحسبُ أنَّ المحاكمة الأكثر عدلاً هي في مقارنة هذه القصيدة بالذات مع أشعار نزار قباني التي قالها عن إسبانيا والأندلس وغرناطة وقصر الحمراء وهي كثيرة في دواوين نزار. ليس لديّ شك في أنَّ درويش قد درس جيداً واستوعب أشعار نزار هذه وتمثلها وهضمها فتأثر بها عميقاً قبل أن يجلس ليكتب قصيدة " لوركا ". الرجل لا ينكر تأثره بباقي الشعراء، وتلكم فضيلة يُحمد عليها. 

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق