أبو السباع/ ايمان الدرع

ــ لا ترقصي، توقفي عن هذه المهزلة، سحبها من يدها بغلظةٍ، يبعدها عن صديقها الذي كاد يلتهمها بأعطافه يلاصقها، وأطفأ جهاز التسجيل، يعلن حنقه بحركةٍ غاضبةٍ، ينفث فيها تأذّي مشاعره.
ساد صمت ألجم الحضور، فلبسوا ثوب السكون المطبق ثم انفلتت بعض همهمات تصدر من هنا، وهناك. بعضهم يستنكر، والبعض يسأل تفسيراً عمّا يرى، وآخرون يلتمسون عذراً: ـــ  إنها جميلة وصغيرة وفي غربةٍ، من حقه أن يخاف عليها أليست ابنته وتحمل اسمه؟! لايجوز لها أن تنسى أصولها الدمشقية العريقة المحافظة لمجرد أن حصلت على الإقامة في ألمانيا، بعد اللجوء إليها هرباً من حربٍ طاحنةٍ أحرقت البلد.التفت إلى زوجته: ـ هييييه وأنت هيا غيّري ملابسك، كم هي مقزّزة وفاضحة! كم من مرة لفتّ انتباهك باجتناب ارتدائها!؟
فارتفع صوتها تجيبه: ـ لاااا ..إلى هنا ويكفي طفح الكيل! أيها المتخلّف الجاهل ماعدت أحتملك، لم تعرف بعد أن الزمان قد تغير والمكان! تريد اليوم أن تنغّص حياتنا بغيرتك العمياء  كما كنت تفعل في الشام! حتى في حفلة ميلاد ابنتك تحرمنا من السعادة!
أجابها: ـ اخفضي صوتك وحاذري، لم أمت بعد حتى أبيع لحمي،  أنا (أبو السباع) أنسيت من أكون؟ أترفعين صوتك في وجهي على الملأ؟! ورفع يده أمام وجهها يريد أن يهوي بها، فتحدّتْه أن يفعل، تستفزه بمواجهةٍ وردّة فعل  أعنف: ــ افعلها  إن كنت رجلاً !؟  فانكمش على ذاته يثني يده، يسندها من عجزٍ  بذراعه الأخرى.
انسحب الحضور لما كالتْ له الشتائم، وردّ لها الصاع صاعين متوعّداً.
لم تنم ليلتها،  اتصلت بصديقتها (أم عماد)  تشكو إليها اختناقاً كاد يودي بأنفاسها:
ـ ماعدت أحتمله، سأفعل ما نصحتِني به، سوف أذهب إلى بيت المعنّفات،أطلب الطلاق، وأفصل مكان سكني عن سكنه، لقد سألتني الموظفة التي تأخذ البيانات أن أحدّثَها بشكل سريٍّ،  إن كنت أتعرض للعنف الزوجيّ،  أو لضغوطٍ نفسيّةٍ، فتريثْتُ قبل أن أطيحَ بآخر الخيوط بيننا، ولكن هاقد آن الأوان ماعدت أحتمل ما عدت. 
 جاوبتها تذكّرها:   ــ لقد نصحتك أن تحذي حذوي، وتضعي حدّاً لهذا التدخل في حياتك، واللامنطق في حرمانك وولديك، من حريتكم الشخصية،تصرفي بحزم والقانون معك.
 حين عاد يحمل من المتجر ما يحتاجه المنزل من طعامٍ، لم يجد أحداً، تفحّص الغرف و الردهات ينادي ابنيه، يناديها، لم يجد لندائه صدى، اتصل بصديق العائلة القديم ابن حيّه، ورفيق مدرسته  (زياد) يسأله إن قصدوا دارهم في زيارة عائلية  على عادتهم! نفى الأمر يتساءل عن سبب اضطرابه! فبثّه حزنه، وروى له ماحصل. شاطره قلقه يبدي تعاطفه، ومؤازرة محنته، تنهّد يزفر قائلا:
ــ أخشى ياصديقي أن تكون قد نفّذت تهديدها، لتفصلك عن حياتها كما لمّحتْ مراراً.
تكشّفتْ له تأكيدات تلك النوايا في الساعات التالية، وهو يوقّع تعهداً بعدم التعرض إليها، والاقتراب منها، أو مضايقة الأبناء تحت التدرّج في العقوبة الأشد لو حصل!
عندما حلّ المساء طالعته أضواء( دوسلدورف) الصاخبة كأنها مهرجانات من جنونٍ وجمال، كأنها لم تلامسْ جرحه فأشاحت بوجهها عنه ليدرك وحدته بين الجموع، وكينونته التي تضاءلت إلى الحدود الدنيا حين سبحت دموعه على ضفاف نهر (الراين) يناديها: ـ أين أنت ياحبيبة الأمس ؟ يا من أضعتك هنا بيدي هاتين هرباً من جحيمٍ إلى جحيم أكبرَ من نوع آخر أشد فتكاً، لقد بعت الدار تحقيقاً للرغبة في السفر علّني أحميكم،  أشتاق فنجان قهوة من يدك عند المساء، أشتاق أن أفك قميص نومك الأحمر الذي تخصصينه لي، ترقصين من أجلي بقدّك المياس، تسحرينني وأنت تتمايلين على إيقاع الرقص الشرقي بمهارة، تتغنّجين على يدي، تنامين بوداعة على صدري،لم تعرفي غيره سكناً فكيف أبدلته؟ 
أشتاق نجوى ذات الضفائرالشقراء،  ابنتي الحييّة الحنون  تنتظرعودتي  لتخطف قطعة حلوى من يدي، تقبلني ثم تلتهمها بمرحٍ وخفّة، تتابع المسلسلات التلفزيونية.
حضني  متلهف لضمّ سامر وهو يبسم لي أثناء تناول وجبة الحليب من رضّاعته، يمسك إصبعي يحكّ بها أسنانه التي بالكاد تشق لثته. قاسية أنت يا (دسلدورف) لقد خبّأتِهم في زواياك الباردة، فلبسهم الصقيع ، واستعاروا صلفك...أين انتم؟! أينكم؟
لم  يستدلّ إلى  مكانهم، حلّ به اليأس، صار يكلّم ذاته في شوارعها هائماً على وجهه، أصابه الشحوب والنحول، وأدمن السجائر والخمور، وتشوّش شعره، جفّ ريقه، وزاغ بصره، وكاد الهذيان يطيح به، وهو يبحث عنهم بين البيوت، وفي كلّ الحدائق، والملاعب، وتقاسيم الوجوه.
لمحهم  فجأة في سيارةٍ مع شخصٍ لم يستبن ملامحه، يخفي عينيه بنظارة قاتمة، .يصل بهم إلى شقةٍ، تبع إثرهم إليها،    طرق الباب بعنفٍ،  بدا له وجه يعرفه جيداً، ولكنه كذّب نظره، .وبين الشك واليقين تأكد من يكون، لم يصدق ما رآه :
 ــ  أهذا أنت زياااد ؟! يا خائن أهذا أنت  أيها النذل الجبان ! تسطو على عرضي! تسرق مني  عائلتي، تقتلني بدم بارد على بساط العشرة والزمن العتيق الذي كان!! ضرب جبينه بيده يكمل: يا اللللللله!! أي سكين قتلتني بها يارفيق طفولتي! يخبط الباب الخشبي بقبضةٍ يفرغ فيها نار قلبه المشتعل وجعاً. 
وأنتِ يا عاهرة هل بعتني من أجله؟ كيف تقبلين! كيف طاوعك ضميرك أن تبيعيني بثمن بخس كيف؟ وراح يبصق في وجهها، فدفعته عنها تطلب من (زياد) التصرف، بعد أن أخرسته الصدمة وتوارى  خلف الباب،  مفضوحاً بفعلته الخسيسة.
طرداه متوعّدين، يشتمانه بأقذع الألفاظ، اغتاظ منه الجوار بعد أن اعتبروه مجنوناً سكيراً،  أقلق راحتهم، واقتحم عنوةً شقّةً في عمارتهم.
سيارة الشرطة تقف أسفل البناء، يقيّدونه من يديه كلصٍّ سارقٍ، أو مجرمٍ شريرٍ يعتدي على حرمات البيوت، يرهب الناس، حاول التفلّت يصيح: 
ــ ياويلكم اتركوني..اتركوني..أنا أبو السباع..أبو السباع  اسألوا أولاد حارتي من أكون؟!   أنتم لا تعرفونني..اتركوني .؟! 
أنااااا   أبو الـ س.. ب.. اااا.. ع....!!!؟؟

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق