نصيب فلسفة الالتزام في تحيين مطلب التنوير/ د زهير الخويلدي

"تسائلونني أن اتحدث اليكم عماهو خاصية ثابتة لدى الفلاسفة؟...إن كل ما اشتغل به الفلاسفة منذ ملايين السنين هو مومياءات من المفاهيم، فلم يخرج من بين أيديهم أي شيء حي من الواقع"
-         فريدريك نيتشه- أفول الأصنام
يقوم الفيلسوف الملتزم بعدة لقاءات ويعقد جملة من الندوات يتدارس فيها الوضعيات المتفجرة ويطرح الأسئلة اللازمة لعصره وينخرط في جبهات الصراع من أجل العدل والحق ضد السلطة وكل أشكال الفساد ويستعمل كل أسلحته الوجودية وعدته المنهجية للرد على الآفات التي تظهر في مجالات التعليم والطب والسجن والقضاء وضمن دوائر العلوم الإنسانية وخاصة التاريخ ( الأرشيف، المتحف، الوثيقة، الآثار).

تمنح فلسفة الالتزام الكلمة إلى المضطهدين لكي يتمكنوا من الكلام عن أنفسهم دون رقابة وبلا قيود ولكي يتمكنوا من نحت سردية انعتاقهم من خوفهم وإجراء تجارب الحرية فوق الأرض بأقدام إراداتهم ووعيهم. كما تفكر في وضعية المثقفين والنقاد وعلاقتهم بالسلطة وتقوم بتنزيلهم في سياق معارض وتطلب منهم  المبدئية والنضالية والتضحية والإخلاص للقيم التقدمية والوفاء بالوعود الثورية والبقاء في حالة مقاومة.

يبدو أن الوقت لم يعد مناسبا من أجل مسايرة الحتمية التاريخية وانتظار تدخل مفارق لمسيرة الأحداث وإنما يجدر بالمرء أن يتحرك ضمن شبكة جماعية نحو الفعل قصد إحداث تغيير جذري انطلاقا من نسق المعارف المبتكرة من طرف الشريحة الصاعدة وبالعمل على تحطيم النظام السياسي والاقتصادي القديم.

لقد وصفت القدرات الانضباطية التي تمتلكها المؤسسات الحكومية بأنها اختصاص صارم يضطلع بمهمة صناعة الأفراد الذين يحوزون على مهارات عالية في النشاط والإضافة ضمن سياق اجتماعي وتاريخي. بناء على ذلك ينعت الفرد بأنه اختراع تاريخي بواسطة التقنية السلطوية التي تسمي التعليم الانضباطي ويشير إلى هذه الهباءة التخييلية التي تحمل التمثلات الإيديولوجية للاجتماعية في مشاعرها وانتظاراتها.

إذا كانت السلطة في مجال ممارستها تعني مجموعة من العلاقات التي تتأثر بعوامل اجتماعية متعددة تسمح بممارستها انطلاقا من المؤسسات والأفراد من جهة معارفهم وأفعالهم وتؤثر في إنتاج الخطاب واستعماله فإن السياسة الحيوية هي الطريقة التي تحكم بها السلطة السياسية مجموع الأحياء وذلك بتدبير جملة من الحاجيات الأساسية مثل الصحة والتغذية والسكن والتعليم والشغل والنقل والترويح عن النفس.

فإن الفلسفة عندما تلاقي العلوم الإنسانية والطبيعية وبالخصوص البيولوجيا وعلم الاقتصاد وعلم اللغة وعلم الآثار تتحول من فضاء نظري تأملي إلى فضاء التجريب والتطبيق والالتزام وتتدخل في الشأن العام وتلتصق بآلة الإعلام من حيث هي سلطة رابعة وفضاء حر لكي تتمكن من توكيد حضورها وإبلاغ فلسفتها والتعبير عن مشاكل الفئات المجتمعية بأريحية وتقدم إسهامات في تدبير السلم المدني في الدولة.

لقد بقيت الثقافة مدرسانية وفكرية وسقطت في الجانب التقنوي ولم تضع نفسها في متناول عامة الناس ولم تراعي الانسجام بين التجربة المعاشة والوجود المكتوب وأهملت تمارين التغير الذاتي وحركة التطور الشخصي وسقط من حسابها اكتشاف التمارين الفكرية وتطبيق القواعد المنطقية على الأقوال والتحليلات.
تقوم الثقافة الملتزمة بإعادة وضع الفكر في حقل الشغل وتقحمه في حراك التجربة التاريخية وتقوم بحوارات مع الحياة العامة وتسترشد جملة من الفضائل والقدرات خارج إطار المشاريع والمؤسسات وتأخذ بعين الاعتبار معاناة الفرد وحال الجماعة وترصد كل شيء محيط بها وتجعل منه ورشة عمل.
من الضروي أن يتم استكشاف وتحديد الخصائص المنهجية للتنوير العمومي وللممارسة الثقافية التي تتصل بشكل وثيق وفعال بالحياة اليومية والتجربة المعيشة للناس وتحرص على التعبير عن آرائهم وغاياتهم وتغيير شروطهم والارتقاء بأحوالهم عبر استبدال الذهنيات وتثوير البنى وإعادة بناء المجتمع.
كل واحد بإمكانه أن يضع التنوير على ذمة الفضاء العمومي وأن يقرن بين التفكير العلمي والتجربة اليومية بشرط احترام المبادئ المنهجية وبذل الجهد بشكل دائم والأخذ بعين الاعتبار مسألة الحضور في الزمان. على هذا النحو يستهدف هذا البحث تأسيس جسور المرور بين ثقافة تصف العالم دون أن تتساءل عن الذات ودون برهنة على وجودها وثقافة تستدعي الذات وتسمح لها بالتفكير دون الحاجة إلى استدعاء العالم وتفسير ظواهره. وبالتالي تسعى ثقافة الالتزام إلى صعود مملكة الفكر دون الانغماس في الحياة اليومية وتمارس رياضة الارتقاء في مراتب الوجود وما يرافق ذلك من حيازة المرونة والانسيابية والليونة دون بلوغ التجريد التام. إن كل مشتغل بثقافة الالتزام هو مطالب بأن يتدخل في الشأن العام ويلتفت إلى القضايا المستعصية على مجتمعه ويقدم مقترحاته وتصوراته ويشجع على التفكير والابتكار وينظم ورشات بحث وفرق عمل وقوى ضغط. ويفسح المجال للمشاركين قصد التعبير عن أفكارهم بحرية وتنظيم اعتراضاتهم على البرامج الجاهزة بثقة تامة في أنفسهم وتشجيعهم على إبداء الرأي وممارسة النقد ومحاسبة النفس وتدريبهم على القيادة والتأثير. كما يمكن لثقافة التطبيق أن تحول المنتديات والملتقيات إلى فضاءات حوار وحلقات نقاش وتفرض احترام آداب المناظرة وقواعد الحداثة متعددة الأصوات وتتخذ تدابير مدنية وتقترح إجراءات تنويرية يعاد تحيينها حسب حاجيات العصر ومطالب المعمورة.
علاوة على ذلك يؤدي تعميم التنوير لدى غالبية الأفراد الى تنمية مجموعة من الكفايات العرفانية والمهارات التفاعلية ضمن ثقافة الحوار والتسامح وينتج علاقات شفافة ضمن تعددية ثقافية تحترم التنوع وتفتح على مسؤولية المعرفة والتعاطف الوجداني ويبني الأحكام السديدة ويحرص على التخفيض من التوتر بين الانفعالات ويميط اللثام عن المصالح والمواقع المتنازع عليها ويكشف أوراق اللعبة السياسية التسلطية التي تقوم على احتلال المواقع وصيد المنافع ويزيل كل التباس وسوء فهم بين المتنازعين ويركز على الاستثمار في مجال الموارد البشرية من خلال الالتزام منظومة القيم الكونية وإشاعة فكرة الإنسانية التقدمية. كما يحتاج تغيير المشهد السياسي في العالم العربي إلى إتباع جملة من المسارات والتشجيع على عدد من الطرق تبدأ من تعليم الثقافة الديمقراطية لكل الأجيال وتسهر على تنشيط الفضاء العمومي وتمنح المواطنين القدرة على المبادرة والفعل والمساهمة وتقترح تقاسم الحكم المحلي من جهة الثروة والمعرفة والسلطة وتقوم بتثمين المقدرات الاجتماعية وتكشف عن الثروات الوطنية بصورة شفافة للرأي العام وتعمل على تحقيق استفاقة اقتصادية عن خلال توظيف الوسائط الرمزية على غرار الدين والفن واللغة والإعلام وتحرص على توفير عائد محترم للجميع تطبيقا لمبدأ العدالة ضمن إطار المنفعة العامة وتحميل المكلفين المسؤولية في الخيارات والتدابير المتبعة في تحديد السياسات العامة وتتجه نحو إبراز الوجه المدني للمجتمع والتربية على حب الأوطان والاعتناء بالسيادة واحترام كرامة الذات البشرية. في الواقع
" لا يكون الفيلسوف هنا إلا أول إنسان يعبر بطريقة منطقية عن هاته النظرة الجديدة إلى العالم أمام المشاكل الأساسية التي تطرح على أفراد هذا المجتمع" كما يصرح بذلك غولدمان في أبحاث جدلية. لكن أي نموذج إنساني يمكن تشكيله على ضوء مراجعة التنوير ونقد إيديولوجيا النزعة الإنسانوية؟

                                                   كاتب فلسفي

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق