بغدادُ مللتُ حُبّكِ الصامت/ الاب يوسف جزراوي

كلمتي التي ألقيتُها في مهرجان جذور للقصيدة الوطنيّة  20/3/2017

في زمنٍ لم يُعد فيه مجنونُ ليلى....
هتف قلبي فجأةً لتلكَ البعيدةَ. 
اشتاقُ لها وليس باليدِ حيلى،
والاشتياقُ كبجرٍ هائجٍٍ... تئنُّ فيه الرياحُ وتتلاطمُ الأمواجُ
حالي اشبه بزورقٍ، انكسر فيه المِجدافُ وتعِبَ الملاحُ
أو كبلبلٍ اصابهُ صيادٌ. 
صليتُ كاخرسٍ تلتهمهُ النيرانُ
 والدمعُ  يصرخُ لالهي:
يا رباه، لماذا بغدادُ في قلبي حرائقٌ
وكم علقَ لي حُبها مشانقَ!
ولماذا
مُعلقُ أنا بين الأرضٍ والسماءِ
على صليبٍ..... بطولِ مساحتِها
الليلُ فيه.. ظلّ مُتابدًا
والصباحُ بقي معصوبًا
صلبني  الشوقُ على جُلجلةِ جفائِها
وأنا ما بلغتُ سنَّ الورودِ.
فكيف يغني البلبلُ وهو حبيسُ قفصِ حزنهِ، 
وكيف يصدحُ العندليبُ إذا كانت الدموعُ تخنقُ صوتهُ؟! 
وانتِ يا بغدادُ ندبةٌ في جبيني وحدبةٌ في ظهري
اُراوغُ اوجاعي، وأخفي خلفَ الاجفانِ دمعةَ حزنٍ
على حبيبةٍ تكحيلُ العينِ بلقائهاِ.... يفتحُ البابَ... لبلبلٍ سجينَ!

قالوا لي يا ايها الكاهنُ البغدادي، يا ابن العراق، يا ابن كلدو واشور:
 الا كفاك تعلقًا ببغداد . امل النظر لنينوى؟
فدُجى الليلِ اخفى نجومهَا لثلاثةِ عقودٍ، 
واضافوا:
أما تدري بأن فؤادهَا عليلٌ وعينيها حزينتانِ تشكو انِ التألماَ؟
قلتُ: كيف السبيلُ لأنفطمَ عن حبيبةِ القلبِ وحدقةِ العينِ:
وأنا العراقيُ الملامحِ والبغداديُ الهوى والمولدِ، 
أنا الذي رصفتُ اضلُعي سُلمًا للوصولِ إليها
انا الذي جعلتُ عينيها شَمسينِ نائمتينِ في اهدابي.
أنا الذي بتُ أمشي في جنازتي كلّ يومٍ، ويومًا سيعلون وفاتي غرقًا في حبِّ بغداد.

بغدادُ ألا سألتي الموصلَ كيف بكيتُ على غيابكِ، كما الجبالُ على الجبالِ تنوح وتبكي،
فيا  غزالتي وغابتي،  يا هزجَ الخُلخالِ والحُلي أسألي نينوى:
كم من مساءٍ مضى وشمسُ عشقكِ تركتني غسقًا عالقًا في بقايا الشجر! وأسالي قلمي كم تغزلتُ بكِ! وكم كتبتُ لامسحَ برذاذِ الكلمةِ القنوطَ عن وجهِكِ، لكن (لا تسألي عن دموعي، فمنذُ متى يسألُ الطينُ عن دموعِ الترابِ. 

منذُ خيبةِ اللقاءِ وأنا احملُ صليبي إلى جُلجلةِ الأمنياتِ، وعلى ضفةِ احلامي ينحني قلمي على دفاتري، يكتبُ الغزلَ لكِ  بحروفِ وجعي، ومن كوّةِ الاحداثِ أعدُ ايامي! حيث فؤادي يتمرّغُ بحكاياتٍ لم تعد تالفُها حكايةُ ألفِ ليلةٍ وليلةْ.
آهٍ وكم من آهٍ ....هي آهاتي 
وكم استبدَ بي الشوقُ
واستفحلَ الحزنُ على  حبيبةٍ وعدت ولم تفِ، اسميتُها بغداد.
وكم بيّ وجعٌ صاغهُ نُطقُ فمي.... كتبهُ لسانُ قلمي
على قمرٍ أفلَّ من سمائي
فكم أنا أُحبّكِ يا بغداد 
حتّى الحُبُّ تعجب من حُبي!
فعلامَ أراكِ خائفةً مني ؟
لا تخافي فكلانا عاشقُ لو الظروفْ،
ألم يكتبْ الحُبُّ أسمي في قلبكِ كما فعل معي،

من سيدني يا نينوى
ابحثُ ككلكامشِ عن وطنٍ لخلودي،
وطنٍ جميلٍ
وجههٌ بغداد،
عيناهُ..... شمسُ الصباح
طلتهُ كبدرِ الليل
طولهُ نخلةُ تعانقُ السماء
وسادتهُ.... على امتدادِ دجلةِ والفرات،
في كلِّ مساءٍ ، لحظةَ ترحلُ  الشمسُ على دربِ الغروب، اجوبُ الطرقاتِ مُتأبطًا ظَلكِ في الحدائقِ وأكتبُ. في عيني ينامُ أنينُ الصمتِ، وعلى قلمي يتكئُ وجعُ الشوقِ حكايةً، اطالعُ الغروبُ راكبًا صهوةَ الليلِ المُنحدرِ كالماردِ الولهان، لكن الورودَ هنا بِلا نبضٍ، وأنتِ وحدَكِ يا بغداد.. لها مكانةٌ في قلبي،  كمكانةِ... العطرِ من الوردِ، وأنتِ  وحدكِ التي اعتاد قلمي في رُباها يكتبُ ويهتفُ. 
ليلٌ طويلٌ وثقيلٌ،  اشمُ فيه رائحَة النوم ِولستُ أدري عددَ النجومِ التي احصيتُها، استغيثُ بخيالكِ كاستغاثاتِ ....السفنِ قبل الغرقِ. 
لم يغمض لي جفنٌ، وكفُّ الأرقِ يصفعُني، اجوبُ صومعتي بطولهاِ وعرضهاِ، الفجرُ  يتطفلُ على نافذتي ، اطالعهُ ليُطفي لظى حريقي.
وحينما  فشلتُ في العثورِ على نورسٍ يحملني على اجنحتهِ ، عاتبتُكِ في سرّي:  لماذا أمنياتُ الكاهنِ البغدادي مُعلبةٌ بقنيناتِ الصبرِ؟، فمثلُ ملحِ البحارِ  هو حُبُّكِ  لازال يقبعُ في قلبي. ولماذا بغدادْ لا تقف حيثُ اقفُ أنا، بيدَ أنها لا زالت تهمسُ: أين كاهنٌ عشقتُه كان يُصلي هنا؟.
يا ننوى قولي لبغدادي: أنسيتي كاهنًا ملقى على قارعةِ هواكِ، وجدَ فيكِ رطوبةَ وملامحَ العراق.
 فكم من ليلةٍ من ليالي سيدني استدرجتُ النوارسَ لاُقبلهَا علّها تطبعُ قبلةَ الأشتياقِ على خدي دجلةَ وجبينِ الفرات، وكم تمنيتُ الوصولَ إليكِ لاحضنُكِ بناضري وارحل.
فقسمًا بعينيكِ يا أيتُها الموصلُ الحدباء، يا ارض اجدادي ، سأظلُ امتطي الريحَ حصانًا للقاءِ ببغداد،
وسابقى اتأملُ مع الطبيعةِ نخلةً، غُصنها يعانقُ السماء، 
وانسجُ الغزلَ  من حروفي واكتبُ الكلماتِ لها فعلَ وفاء...فإن لم يُطلقني صمتُها سأبُقي كتاباتي سفينة ترحال؛ وسأهز جذعَ النخلةِ علهُ يغدو بساطَ سندباد إلى موقعِ اللقاء ؛ هُناكَ ساُراقصُ الشموسُ معها حتّى آخرِ ومضةٍ ، وساُقيمُ لها الأماسيَ  حتى  آخرِ غسقٍ، وساصلي  لها طقوسَ قدّاسي الآشوري، حيثُ المأئذنُ وقِببُ الكنائسِ.  والضفافُ الرافديني وأغانيْ الصيادينَ ومزاميرُ المرتلين.
بغدادُ تحنني
ولا تجعلي صمتكِ يقرأُ مرثيتهُ على نعشِ امنياتي
ولا تبتعدي عن عشبِ احلامي الندي
أجل، لا تجعلي  قلبي الذي يلبطُ في هواكِ يُضاجع الخيباتِ ،
هل نسيتي من أكون أنا؟
أنا الذي اتعبهُ صمُتكِ واذلهُ حُبكِ
أنا الذي كتبتُ لكِ مكابداتي وخلجاتي  
أنا الذي وقفت طيورُ الحبِّ  صامتةً خشوعًا لمغازلاتي
لحظة قرأتُ لليلِ وللكمانِ مُناجاتي،
وتلوت للطبيعةِ والرياحِ والطيورِ  
وصية ًمُتخمةً بالأماني، حُبلى بالمعاني
يتلونها لكِ و يُعملُون بها بعد مماتي:
أن يزرعوا بجوارِ ...قبري شجرةً
لأنني ساعودُ طائر َ حبٍ ،
صباحًا يعوم في فضاءاتِ الهواءِ
وفي الليل  يتكئ على غصنكِ الدافي
يشدو فوقهُ  ترانيم وفائهِ .
فعلامَ أنتِ عازفةٌ عن الكلامِ؟
هل  اضحى الصمتُ وسيلةً لنطقكِ ؟
في سيدني أتوارى هنا وهناك عن سؤالِ الناس عني
اهرب  منهم وإني في الأصلِ هاربٌ من نفسي لابحثَ عنكِ
متى ستدحرجينَ الحجر،
ففي يومٍ ما، سارحلُ  إلى العالمِ الآخر ، حيثُ لا يعودْ الناس،
ياليتكِ تسمحين لجسدي أن يُقيمُ في تُرابِـــــــِِكِ،
فيا قديستي،  يا حبيبتي، يا طفلتي، يا عروستي،  يا بغدادي، يا تُرابًا... جُبلت منه
تأكدي  أن غيركِ ليس في قلبي، 
واسمُكِ سيظلُ كالوردِ على مائدتي.
 دحرجي الحجرَ  عن صمتكِ
لتكونَ  في أرضكِ... قيامتي.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق