كتابة البوح في نصوص "بنت من ورق" للروائية نهى محمود/ عبد القادر كعبان

من يصطدم بكتابات الروائية والقاصة المصرية نهى محمود سيلمس في جوهرها بعدا ذات طابع سير ذاتي بالدرجة الأولى كما هو الحال في نصوصها الموسومة "بنت من ورق" وهي من مدونتها (كراكيب نهى)، ولعلها من أهم العناصر التي تميز كتابات هذه الأديبة كروايتها "هلاوس" والتي قد نسميها 
كتابة البوح الحميمي.
قراءة نصوص هذه الكاتبة ذكرنا بمقولة لجورج طرابيشي والذي كان يرى أن الرجل المبدع يكتب بعقله بينما المرأة المبدعة تكتب بقلبها، ويقول بأن العالم هو محور اهتمام الرجل، أما المرأة فمحور اهتمامها الذات، حيث تستمد جمالية الكتابة في المقام الأول من ثراء العواطف وزخم الأحاسيس (1).
ربما حاولت نهى محمود كغيرها من الأديبات المصريات كسهى زكي اختيار التدوين كوسيلة جديدة في سياق التجريب للبوح الأنثوي على خلاف الأديبة نوال السعداوي التي اختارت لها نهج المذكرات لتخرج كأنثى متمردة من الشرنقة النفسية والاجتماعية والسياسية، لتعطي فلسفة جمالية لأعمالها الأدبية أين نذكر لها هنا على سبيل المثال "مذكرات طبيبة" و "امرأة عند نقطة الصفر" و"مذكراتي في سجن النساء"...
يمكننا اعتبار نصوص "بنت من ورق" سردا نثريا تستدعي من خلاله نهى محمود الراوي الذاتي ليروي لنا مثالب شخصيتها ومحاسنها، من خلال حديثها عن طقوس الكتابة لديها واهتماماتها بالطبخ والكتب والأفلام والموسيقى والأحلام وخذلان البشر وغيرها من الأمور الشخصية بأسلوب اعترافي صريح.
ما أجمل أن تحلم الساردة كالأطفال ببابا نويل الذي غالبا ما يكون عجوزا ضحوكا يرتدي بزة يطغى عليها اللون الأحمر وبأطراف بيضاء وتغطي وجهه لحية ناصعة البياض، وهي تكتب له في نصها الموسوم "أحضان الحبايب" أمنيتها في ورقة بيضاء، وهي أمنية بسيطة قد افتقدناها اليوم في عصر التكنولوجيا للأسف الشديد وهي حضن يجمع كل الأحضان القديمة التي احتوت أوجاع الكاتبة وأحزانها وبهجتها: "مثل ذلك وأكثر طلبت حضنا من سنتا كلوز. مثل ذلك وأكثر أجلس كل نهار في فراشي وأتمهل قبل مغادرته لأني في انتظار- حضن" (2).
تحاول الساردة الهروب من أرق الكتابة في العديد من نصوص "بنت من ورق" بالمزيد من الدقيق الأبيض الذي تليه مهمة القص كما هو الحال في نص "رسائل"، غير أن الذاكرة تباغتها بصور من الماضي لتتفقد من جديد تلك الخطابات بين أوراقها القديمة: "كنت طفلة خجولة جدا، أظن الآن أن الكتابة أنقذتني من تخلف عقلي وشيك. كنت أخجل أن أتحدث فأكتب" (3).
في حين يبرز نص "البنت التي تكتب" حالة الرجل الذي تعشقه البطلة وهو يراها فتاة غير عادية، لكنها ترى أنها شبيهة للأخريات، حتى أنها تكتب لأن الكتابة هي وسيلتها الوحيدة للحياة كالرسامة الشهيرة فريدا كاهلو التي تعشق كونها خلفت وراءها تراثا تشكيليا رائعا، جسدت من خلاله مقدار الوجع والقلق والمعاناة خلال سنوات عمرها القليلة كالكثيرات من النساء: "تكتب له في الصباح قصيدة ولا تنسى أن تكتب له على الوسادة عدد مرات ممارسة الحب بينهما في الليلة الفائتة كجزء من هوسها بتسجيل الأرقام بسبب الوسواس القهري الذي تعاني منه" (4).
ما يلاحظه المتلقي عموما من خلال هذه النصوص هو تطابق الساردة مع شخصية الكاتبة، وهو ما تفترضه السيرة الذاتية من خلال استخدام الضمير المتكلم العليم، وهو ما يطلق عليه جيرار جينيت (السرد القصصي الذاتي) أثناء تصنيفه لأصوات الحكي (5). 
يطغى على بعض النصوص تأثر المبدعة نهى محمود ببعض الأديبات من أمثال الساحرة الشيلية إيزابيل الليندي والأديبة السورية غادة السمان والجزائرية فضيلة الفاروق التي أثارت جدلا في الوسط الأدبي بصدور روايتها "اكتشاف الشهوة"، وهذا ما يبدو جليا في نصها "وأطير" الذي تفوح منه رائحة البرائة لطفلة مغامرة، عرفت كيف تتعلم دروسا في حياتها وسط العناء، البهجة والصخب في هذه الحياة: "منذ أيام نظرت للسماء وكان هناك نجم أعرفه وأحبه وسألني أن أطلب منه شيئا، فقلت بخجل أحتاج لمعجزة" (6). 
هذا الاهتمام نلحظه كذلك في نصها الموسوم "عن الأشياء" حينما تحاول الخلاص مما يعكر صفوها من خلال جرأة تلك المبدعات: "فأضبطني في الصباح وأنا أغسل وجهي أرفع عيني للمرآة وأتحدث عن شيء في بناء رواية 'اكتشاف الشهوة' شيء جعل رأسي يترنح طيلة ليلة –بنت اللذين!!" (7).
في حين سيكتشف القارئ تعرض الساردة لكسور وخدوش في جسدها من خلال نص "يشبه الكسر" فتمتنع من الالتقاء بمن تحب، حتى أنها تخرج رواية أطياف للكاتبة المصرية رضوى عاشور وترى أنها مناسبة لهذا الظرف: "تتذكر كل من تحب، وتفكر في كل من خذلها، ثم تنهض من جديد وتنظر من الشرفة على نفسها التي قفزت منذ قليل قبل أن تعود للداخل في هدوء، متحسسة أوجاع الروح وخدوش الجسد" (8).
سنلمس أن مشاعر الفرح تحوم حول الساردة في نص "مثل ساحرة طيبة"، وهي تنثر بسعادة غبار الحب السحري على أصدقائها كجنية طيبة تنوي اقتسام أسرار الأمل مع الآخرين: "بشارات الأمل، طاقات النور، تلك التي بقت سنوات تعد تعاويذها دون كلل ولا يأس، جاء أوان حصادها أخيرا" (9).
تحاول المبدعة نهى محمود في نصوص "بنت من ورق" لم شتات جملة من ذكرياتها وخيوط تجاربها التي يتضارب فيها الألم والأمل معا ببوح سير ذاتي، يبحث له عن أفق جديد كنوع من الاعتراف، كما وقد صدر مؤخرا للكاتبة المصرية مجموعة قصصية تحت عنوان "الجالسون في الشرفة حتى تجيء زينب" (بتانة، القاهرة) أين تنثر كذلك جملة من أحلام البسطاء وأوجاعهم في هذا العالم.

الإحالات:
(1) مهدي ممتحن وشمسي واقف زاده، الأدب النسائي مصطلح يتأرجح بين مؤيد ومعارض، مجلة التراث الأدبي،السنة الثانية، العدد السابع، ص 3.
(2) نهى محمود، بنت من ورق "نصوص من كراكيب نهى"، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013، ص 13.
(3) المصدر نفسه ص 20.
(4) المصدر نفسه ص 30.
(5) جيرار جينيت، خطاب الحكاية (بحث في المنهج)-ترجمة محمد معتصم وآخرون، المجلس الأعلى للثقافة، 1997، ط2، ص-ص 24-25.
(6) المصدر نفسه ص 40.
(7) المصدر نفسه ص 43.
(8) المصدر نفسه ص 72.
(9) المصدر نفسه ص 62.
*كاتب وناقد جزائري

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق