روافد وجدانية في قراءة انطباعية/ أحمد ختاوي

 الشاعرة جنان  بديع الشحروري: مرايا الرؤى بين ثنايا همّ ممتشق  
من يقرأ للشاعرة  الفلسطينية  الواعدة  جنان بديع الشحروري يلمح  في  نتاجاتها عينان  : عين ثكلى ، وعين  تعد  دموع  مآقيها  وعين أخرى  احتياطية تقوّض    أنقاض الرزايا  .. 
الشاعرة   الفلسطينية  الواعدة جنان  بديع  لشحروري  أم لطفلتين بهيتين ، تقيم  بالعراق  الشقيق  رفقة  زوجها وبنتيها البهيتين .
بالعين الاحتياطية  الاحترازية تسرق لحاظ اللظى  بين ثنايا سيمفونية    الأمومة لتبثها همّاَ موازيا  ، لكنه  حليبا  قزحيا  في أفراحها كأم  ،  وهي  تقف وقفة أم  رؤومة 
من قصيدتها  الرائعة  
بنتي الحبيبة  '' 
وهي ترحل وتترجل   حلمة ومزن  الحنان   بمعيار  الثقل في التجنّح   والتسامي  والتجلي  في  هذه المشهدية   الأخاذة   
تقول  وقد   لا تتوانى في أن  تضمن   الحنان بالشعر:  رويه  وقافيته وتفعيلته  وإشباعه  كأحد  المقومات  الأساسية  في  نسج معاييرها ..في  البوح  : أٌمّاَ وشاعرة  ..  تقول  في  تجل  متدارك  متماسك   وهي  دوما  تستيقظ    البؤر   من غفوتها  :
سبحان من جعل الحنان قصيدة
وبحورها تشدو بلا نغمات
وبحثت عن ركن هناك لأنني
عند الوداع سألتقي غصاتي
فوجدت في رحم القوافي موئلا
خبأتني كيلا ترى عبراتي
قلب الأمومة غارق بحنانه
والروح تسرح في سما الدعوات
أدعو الإله بأن يبارك عمرها
ويوفق الأختين قبل مماتي.
ها هي في  هذا المقطع  الرائع  تستنجد  وتبحر  ، بل تمخر عباب  بحرها ، فتجد  في الشعر ضالتها ومأواها ومثواها  حين  تتفاقم  النوائب  :  قولها في  هذه الإرهاصات  والتجليات:
وبحثت عن ركن هناك لأنني
عند الوداع سألتقي غصاتي
فوجدت في رحم القوافي موئلا
خبأتني كيلا ترى عبراتي
قلب الأمومة غارق بحنانه
والروح تسرح في سما الدعوات.
مدركة بحس  الأمومة  والشاعرة معا أنها لا محالة  ستلتقي  بغصاتها ..
هي  ذي الغصة  تطفو على مدامعها ومآقيها بالرغم من الفرح   والتسبيح ، لكنها  لا تخلو من  زفراتها وهي  تنسج   عبر هذه  الصورة  الارتدادية    سمو الدلالة بمواجع    متناظرة 
قولها :
أدعو الإله بأن يبارك عمرها
ويوفق الأختين قبل مماتي.
ضمن  هذا المنحى   يرتكز   مأواها ومثواها ووزرها   الخفي ..
الهمٌّ  ومراياه  عند  الشاعرة جنان  بديع الشحروري  يكتسي صبغة  المرونة بقفاز  من   حديد   وحنان   ومن  نار تتلظى  ومن  سيف ممتشق .
لا تتواني الشاعرة أيضا في    أن  تمنح   لنفسها مساحة للفسحة    كتنفيس   وليس  هروبا   وهي رتل فاعل   في جحافل مواجعها  وما البنت الحبيبة   إلا طلعة بهية  من    لبؤة  حنونة  ،
الشاعرة  جنان بديع  الشحروري ، لا يبرحها سيفها الممتشق  عبر  مسارها الإبداعي  والمبدئي ،   فهي التي  تحمل  فلسطين    الجريحة    عصفورا مقرورا فتدثره    بأجنحتها وتطعمه     من قٌوتها وما ملك أيديها ،   هي  التي تؤمن بأن  الوجع   الفلسطيني وإن أصابته  غفوة      فتوقظه لترحل وإياه عبر معابرها  رفيقةَ  حتى   لا يعتريه  السراب  وتكتسحه   الغياهب  أو  ترضعه  المحن ،   هي   المعول في رحم    القضية ،    تحفر أثلاما هنا وهناك   لتبذر الظفر  عبر معاييرها    وتجلياتها  ..بمحراثها /  إنسانة   /  شاعرة  يسكنها المنفى  حتى النخاع ..تعيش  الشتات   في  الذات  وخارجها .  داخل بؤرة  ذاتها صدى  شتات ملتهب ، بركان    يتضوع  حمما وتحد   ومركزية نضالية  تتأجج  دوما.. 
هي  ذي مكونات      الشاعرة  الفذة  جنان بديع   الشحروري  في  مختلف  تضاريسها    الإيحائية  والتضمينية  وحتى     النارية  المباشرة ،  فهي لا تستكين   لمجرى  التيار أو  الريح ،  هي  ذاتها أي   الشاعرة   ريح  همزى  في  وجه  الغزاة  ..
قد  نفرد    موضوعا آخر ،    لعل   هذه   المرمرية  العبورية  إذا أطلنا فيها قد تثقل  كاهل ومعدة  القارئ ، ورأفة به  ،  ونظرا للكم    المترامي  الإطراف من  هموم  الشاعرة  سأعتمد  الإيجاز ،  ولو أطلقتُ  العنان   ليراعي  المتواضع  لملأت  الصفحات بما  نسجته   الشاعرة    من قصائد   في مختلف الإغراض ،  وقد  لا تسعفني  هذه  العجالة   المنهجية في اقتناء واقتفاء  كل أعمالها وهي تربو  عما يقارب أربعة دواوين  وأزيد ،  
هذه عينات بسيطة   من  ألف عينة  ومنحى  وهمّ  وقضية  ..
أؤب  لأقول   وقد  صدّرتً  مطلع  هذه القراءة  المتواضعة  العابرة  أن  من يقرأ  للشاعرة  جنان  بديع الشحروري يدرك أن  ثمة  تراكمات  مبدئية  تنتظر من لحظة لأخرى    ومن فينة  الأخرى  أن تسري والنجوم لوامع  ، قد يرى البعض   في  توظيفي  كلمة "   لوامع  " استهلاكا واستدلالا بالموروث  اللفظي   فيما النحت  اللغوي  الحديث    يفرض أبجديات أخرى  في  التعاطي  مع  اللفظ وفق  مفاهيم  الحداثة  والتحيين    ، أقول بكل تواضع: إختياري  لكلمة  '  لوامع  '  عنوة     هو  تضمين  ضمني  لمسار   الشاعرة الإبداعي   عبر  مسارها الموزع عبر خرائط  وملامح    متعددة:  التراثي    المتجدد  والمتأصل   المتداول شكلا ومضمونا ، فهي  التي  تكتب فتبدع في  العمودي ،  وهي التي تكتب  فتنسج  عوالمها الرؤيوية   في  مرايا الحداثة  والتفعيلة  ، والمرسل والزجل ، حتى أنني وأنا أقرا لها  كمتلق    طبعا أحس    وأنني أمام  فدوى  طوقان ، أطل من  نافذة آهاتها على آهات  الشاعرة  جنان بديع  الشحروري .
ضمن  هذه البوتقة  وغيرها تكمن  تضاريسها ،  بل تتعدى  ذلك  إلى  قواسم  مشتركة  تجمعها بكبار  الشعراء  الفلسطينين أذكر  من بينهم  على سبيل المثال ليس  الحصر / أحمد  دحبور / خالد أبو  خالد /  حافظ  عليان  / سميح  القاسم والقائمة طويلة ،  
هؤلاء  على وجه التحديد  يجمعهم همّ  مشترك  ورؤيا واحدة   وتطلّع  موحّد.
إذا كنت الشاعرة  جنان بديع  الشحروري  تنسج ضمن  هذا المنحى   ، ليس  هذا معناه أنها تنسج نفس  النسيج  مع  هؤلاء ، لكل واحد من  هؤلاء  تقنياته الخاصة  وخاصياته  وارهاصاته  في لمّ  الهم  الفلسطيني    كل حسب  منهجه  وتعاطيه  مع  هذا الوجع  .
الشاعرة  جنان بديع  الشحروري لها مقوماتها في  هذا الصدد ،  ما    وددت الإشارة  أليه  أ ن الشاعرة  توزع  خرائطها  وتغترف من  معين    رؤيوي واحد  يعكس  مراياها  في هذه   المواجع ، 
ها هي  وهي  تبث آهاتها مواجع  ومدارك    وترحل بنا في  هذه  العينات  وقد أمر عليها    على عجل 
في إحدى قصائدها الفذة  ترحل  بنا    ممتشقة  دوما سيفها  في  هذا التجلي  :
قولها   من قصيدة  لها    عنوانها    فقدُ 
  
فقد
أإذا رجمتك يا نوىً بمدادي
هلّا برجمك نلتُ كلَّ مرادي
هل كل شعر تستبيح بيانه
وتكبل الأوزان بالأصفاد
كلُّ القصائد ان أتيتُ أخطها
كنتَ الحضورَ بثغر حرف الضادِ
فوصيتي عانقتها ورعوتها
وحفظتُ عهدة من دنا كجواد
مالت عليَّ سنونَ ضنٍّ واعتلا
صبري كطير في سماء بعادي
لا أم تحضنني لتمسح دمعتي
لا أخت ألقاها بليل سهادي
والركب تاهت في الدروب مسارها
أسلمت للأسفار كل عتادي
في القلب نبض لا أعد رهيفه
فرهافة الأشواق ملء فؤادي
أوغلت في ذكر النوى وحليفه
هذا الغروب يحيطني بسواد
ذات القصائد قد تواتر حرفها
ذات الحروف وقد صحت برقادي
قسما بأشعار الفراق وسهمه
هذا الحنين ودمعه بوسادي
أحصيت جمعي قبل كسري هاهنا
فرأيته مثل الخميل الشادي
من لوعة الفقدان كانت قصتي
وسطورها فقدي وفقد بلادي
ها هو   البوح ،  وأترك للقاري  التتمة  ..
هي ذي لوعتها  ولواعجها تفرغها   في هذا البوح.
تستمريء  السواقي ... سواقي  الأمل والفرح    في هذه اللوحة  ،  وهي  الإنسانة  /  الأم  /  التواقة إلى استشراف  قزحي  
في  لوحتها هذه  :  
  فما أجمل الأعيـــــاد صوب خميلتي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمن تسرجين الحلم يا قطرة الندى
وفي غابة الأزمــــــــان حقل تشردا 
وفي دوحة الإلهــام تصلى مشاعر 
تؤجج في الأشعـــــــار حلما مقيدا
يقولون أن الشعر نجــــوى سحائب
فكم من قصيــد بالدمــــــــوع تفردا
فمن مزنة الأحلام تروى قصائــــدي
وذي سطوة الأحقــاد صبت روافــدا
هو الشعر مرهون بسحر بيانـــــــه
كطهر القوافــي فوق سطر تعمـــدا
فهذا صهيـــــــل الشعر نبض حوائج
وكم من قصيد كالسراج توقـــــــــدا
وهذا بريق الحق أمسى كشاعــــر
يلوح للأيـــــــــــــــــام كي تتجــددا
فما أجمل الأعيـــــاد صوب خميلتي
وزهر اللقا  بالإبتهـــــــــــــــال تصفدا
زففت حنينا صوب رابية المنــــــــى
وبالحرف تبيان لمـــــــــا قــد توصدا
نسير معَ الأحلام صوب مروجنــــــا
حيـــــــــــارى يؤم العمر جرح تأبـدا
توالت سجــــــــــالات الذين تحيروا
ولكن سجالي للنوى مــــــــا تبددا
القصيدة  طويلة  اقتطعت  منها هذه  الأجزاء  .. 

هذه     هي  الشاعرة الفلسطينية  الواعدة    جنان  بديع  الشحروري موزعة  عبر خرائطها ،  فهي  إلى جانب  كونها أمّا  فهي  أحد الكوادر الفاعلة      بجريديتي   أضواء  مصر    ومؤسسة   الجبالي للثقافة  والفنون  ،   تعمل في صمت  بعيدا عن  الأضواء ، أحرزت    على عدة  أوسمة   بهذه المؤسسة   تقديرا ولقاء  تفانيها وجهدها في  العمل    بعيدا عن الصخب والضجيج  والعجاج ..  
وإذا   كان  من نافلة قول   وأنا بكل تواضع أتناول   أعمال هذه الشاعرة  بهذا القدر المتواضع  ،  أنتهز  هذه السانحة  لأقول  أن  النقد  ذائقة  ومَلَكة  قبل أن  يكون  نظريات    وركام  أقوال وأقاويل  مشاهير .    كل من يمتلك  هذه الذائقة  بحس  مرهف  ويتوغل إلى عمق النص فهو  ناقد  بالضرورة   ، المتلقي  ناقد  إذا كان يتوفر على مَلَكة الحس المرهف  إلى جانب الأدوات  المعرفية  ،  وليس من يستعرض  عضلاته في  الاستشهاد  بركام  النقاد  وأقاويلهم  وبهرجتهم ، 
وقد نعلم   ربما جميعنا أن  النقد  العربي  استمد    نظرياته  من الغرب ،  بمنظور غربي طٌبّق  على    المد  التعبيري  العربي ،     النقد  في  الستينات  كما هو  معلوم  تدحرج    من الستينات وُلد   وترعرع  ماركسيا بحثا  وفي  السبعينات  انتقل إلى البنيوية  
ليعرف   التفكيكية  في     الثمانينات  ، ثم  أننا إذا أوردنا على سبيل المثال   أن النقد  الوافد  من الغرب ارتطم  بمنتوج  مغاير.
المازني مثلا   والعقاد واستعارتهما للمدارس  النقدية   الانجليزية والفرنسية    وغير ذلك من استعارات طه  حسين للديكارتية    ومحمد  مندور   ولويس عوض  غيرهم  للأفكار الماركسية  إلا أن  جاءت  الوجودية  كما هو  معلوم  في  الخمسينات    والبنيوية في   السبعينات  وما تلاها كما أسفلت   كالتفكيكية وغيرها ، ولعلني قد أورد    الناقد  عز  الدين اسماعيل  في منهجه النفسي ،  كعينة  لمنتوج  محلي  يستجيب لمتطلبات النص   بصرف النظر عن كونه  منتم  لتيار أو لأخر.
بهذا أردت الوصول بكل تواضع  إلى القول  بأن  النقد  ماهية  واجتهاد  ورؤية   وجدانية  بمعزل عن  الطرح  الأكاديمي المثقل بالنظريات الجوفاء وإن  كانت  لا تعدو كونها أطرا منهجية في  العملية النقدية / لا أنكرها   ولا ينكرها  إلا جاحد  هذا بقدر ما أطمئن  إلى دفء الوجدان  النقدي بعيدا عن  كل طرح أجوف مثقل بنظريات استعراضية  .
 كان بإمكاني ايراد جورج لوكاتش / . رولان بارت على سبيل المثال ،غير أنني فضلت الانصياع للذائقة  كمنفذ  شعوري  لوجدان النص  بما يحمله  من  حمولة / جمالية  وغيرها ..ولنا أؤوبة للشاعرة  في  محطات  أخرى  ، 
أرجو  أني  لم أكن  ضيفا ثقيلا  ....  .والسلام عليكم .
هذه  محاولة استقراء بكل تواضع    لمد  شعري  يختزنه  معين  الشاعرة الواعدة  جنان بديع  الشحروري التي  نتمنى  لها موفور  السؤدد  ،  والتوفيق وأن  نرى  العلم  الفلسطيني خفاقا بالقدس  الشريف .وبالصخرة    الميمونة    وكنسية  القيامة  كل المآذن  والكنائس و بالكرمل   وكل  إرجاء فلسطين  الجريحة  ، الثكلى    بإذن  المولى  سبحانه  وتعالى   .

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق