الانا ... وطقوس الشاعر في خلق القصيدة/ كريم عبدالله

هذا الأثيرُ يحملُ عطرَ تصاويركِ وحدها تتفتّحُ في ليلِ عيوني , تمطرُ أحلاماً غزيرةً تسبحُ في ينابيعها الجديدةِ أصواتُ صبواتي , كيفَ لي أنْ ألمَّ بريقَ عينيكِ وهذي النجوم تستجدي أنْ تغسلَ عتمتها بزرقةِ شطآنكِ !
هكذا تبدأ القصيدة وفي هذه الاجواء المشحونة بالعواطف الهائجة والمتأججة بالذكريات الغابرة وحضورها القويّ في حاضر ينزف الماً واضطرابا ...
أكاليلُ الأزهار تصطفُّ كلَّ صباحٍ على شرفتكِ تنتظرُ متى تنهضينَ مِنْ نومكِ وتمنحينها العطر , أسرابٌ مِنَ الطيورِ تحطّ ّ ُ على مائدتكِ لعلَّ فُتاتَ صوتكِ يجعلها تغرّدُ بعذوبةٍ شديدةٍ ...
المكان له الحضور القويّ والمؤثر في أجواء وطقوس خلق القصيدة وكذلك الزمان ما ينفكّ يدغدغ الروح المستشعرة بالغربة واللاانتماء ...
فانتِ تنهمرينَ عليَّ كلَّ ليلةٍ وَفَراً يطهّرُ همجيتي , فترفرفينَ باجنحةِ الأشتياقِ فوقَ أنهاري وتتوغلينَ في مدني .
على القصيدة ان تهذّب الذات وتمنحها بريقا وأناقة تسمو بها عن كل الحماقات والدناءات وتعيد تهذيبها من جديد ...
انّها تأتي ( القصيدة ) رغما عني وقتما تريد هي وتشتهي مثلما حالة الولادة عند الام لا تدري باي ساعة ستحين ولا باي مكان ستكون , ربما أثناء الحرب وتحت أزيز الرصاص والمدفعية تداهمني القصيدة أو أثناء سياقة السيارة وفي وسط الزحام تعلن عن بدأ ولادتها وربما وانا منهمر في ساعات العمل اليومي او حين تطفأ الانوار ويحين موعد النوم فتقظّ مضجعي فتسهّدني وربما حين الاستماء الى موسيقى معينة تهيّج الذكريات الغافية على حافة الايام المنسيّة وربما عند سماع اصوات الباعة المتجولين في درابين مدينتي او حين التدقيق والابحار عميقا في عينيّ حبيبتي الجميلة او في لحظة بكاء بصمت في محرابها تتكالب عليّ فتهاجمني القصيدة .
في خضم هذه الاجواء المشحونة بالالم والخوف والقلق تأتي بواكير القصيدة , فأنزوي بعيدا عن العالم الخارجي واذهب وحدي الى عوالم بعيدة عن الواقع فأتشبث بعالم ما وراء الحلم وأستغرق في تأملاتي منتشيا في عزلتي أكتبها بعمق وتوهّج في ذاكرتي نعم اكتب القصيدة اولا في ذاكرتي , وكلّما انقطع عن هذه العوالم لاسباب معينة أدوّن في أوراقي الى اين وصلت , فأعود اليها مرة اخرى ومرّات كثيرة أهندسها واشذّبها وأضفي عليها مما أعاني الشيء الكثير والكثير .
 ولكوني اعمل في مجال الطب النفسي ومنذ سنوات طويلة لاشعوريا سيكون للنفس ومعاناتها نصيا كبيرا وحيزا في هذه القصائد , ربما يكون المسرح حاضرا معي اثناء ذلك ( لكوني اكتب وأخرج للمسرح وبالخصوص مسرح السايكودراما ) فاتقمص الشخوص في القصيدة وألعب الادوار جميعها مع نفسي وكذلك لشغفي الكبير بالفن السريالي وممارستي للرسم تحت ظلّ هذه المدرسة ( السريالية ) يجد المتلقي جميع قصائدي ونصوصي مزدحمة ومكثفة وللرمزية فيها شيء غير قليل , وكذلك ولعي الشديد في السينما وعشقي لها سيجد المتلقي انني اقتطع مشاهد ولقطات ضاربة في عمق النفس البشرية وأستعيدها حاضرة في هذه القصائد . كلنا نمتلك خيالا وبدرجات متفاوتة ولكن الشاعر الحقيقي يتميّز بخيال خصب يجيد استعماله بطريقة ابداعية خلاّقة تبعث على التأمل وتفتح ابوابا شاسعة للتأويل فالخيال أهم من المعرفة كما يقول اينشتاين لهذا أمارس لعبة الخيال الخصب وأسكبه فيما أكتب ايضا . على الشاعر ان يستثمر موهبته اقصى ما يستطيع من اجل كتابة قصيدة حقيقية , ولهذا حاولت واحاول وسأحاول  ان اكتب قصائد تصلح ان تقرا في كل مكان وزمان هي محاولة اعمل أن أفلح فيها .
بعد مخاضات كثيرة ومعانات مؤلمة وحلما تكتمل الصور واللوحة ( القصيدة ) تكون جاهزة اذهب الى الورق ارسمها عليه , نعم تأتي مرحلة الرسم بعد ان اكون قد كتبتها في ذاكرتي , فاجد المتعة الشديدة كلما بدات ملامحها تزدهي وتتوهّج ألوانها .
وحدهُ أسمكِ يفضحني فقبلَ أنْ أناديكِ تتعطّرُ حنجرتي وتعزفُ أوتارها سمفونيةَ هذا العشق , كلَّ اللواتي دخلنَ قفصَ صدري مِنْ خرمِ إبرةٍ خرجنَ معَ الزفيرِ يندبنَ حظهنَّ العاثرَ , إلاّ أنتِ تتمرّجحينَ بأوردتي فتزداد نبضات القواميسَ فأكتبكِ قصيدةً خالدة .
بعد هذه المرحلة قد اترك القصيدة جانيا وأتنفس بعمق شديد وكأنني تخلّصت من همّ كان جاثما على صدري وأعود أمارس طقوسي اليومية العادية , بينما يكون الفكر يعمل بهدوء على إنضاج القصيدة , فقد ارجع بين فترة واخرى اليها وأحاول ان اكون مونتيرا شجاعا احذف اللقطات ( الكلمات ) التي ترهّل النصّ وقد أضيف كلمات اخرى توهّج النصّ اكثر وتمنحه بريقا مشرقا . غالبا ما اكون حنونا على اللغة واتعامل مها برقّة وعذوبة وحسّاسية شديدة فاستمر هكذا حتى تولد القصيدة وتنتهي معاناتي بنهاية كتابتها فأعود مكلاّلا بالبهجة والارتياح بعد هذه المسيرة  العسيرة والمخاض الشديد وأعلن عن مولود جديد أعتزّ بها كثيرا .

بغداد
العراق

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق