اقتصاد الدومينو.. الجزء الثاني: النفط و السياسة و حافة الهاوية/ هادي حمودة

كنا قد نشرنا تحليلا العام الماضي بعنوان "اقتصاد الدومينو" تناولنا فيه أهم العوامل التي أدت إلى دخول الإقتصاد الروسي في حالة تشبه تأثير الدومينو و حالة التراجع و الضعف الحاد التي ألمت بالاقتصاد الروسي و ناقشنا أهم تلك العوامل الداخلية بالإضافة إلى عامل واحد خارجي تمثل حتى تلك اللحظة في العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على روسيا عقب ضم إقليم القرم في أوكرانيا من قبل روسيا، كما قمنا بتوضيح آلية تلك العقوبات و مدى تأثيرها على الاقتصاد الروسي.
لكن أصبحت هناك حاجة ملحة لاستكمال هذا الموضوع لاسيما بعد إضافة عوامل أخر خارجية – لا تمس طبيعة تكوين الاقتصاد الروسي نفسه – و إنما أسميها خارجية لأنها على ارتباط و ثيق بالسياسة الخارجية للروس في وقت تأججت فيه الأزمة السورية و في الوقت الذي قررت فيه روسيا التدخل المباشر في سوريا  لتصبح في رأيي الأزمة السورية أكثر عالمية و آخذة في التحول من شكل الحرب بالوكالة إلى صراع إرادات و آجندات للقوى العالمية و توابعها بما قد  يهدد بحرب شاملة و صراع عالمي مباشر بين أصحاب تلك الأجندات المختلفة إن لم يتم التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف أو ينتهي بتقسيم سوريا بصورة أو بأخرى في النهاية.
إذا أضفنا ما سبق ذكره في التحليل السابق عن الظروف الداخلية و العقوبات على روسيا إلى القرار الروسي بالتدخل في سوريا و نظرنا نظرة متأنية فاحصة لحالة الإقتصاد الروسي و تصريحات المسؤولين الروس منذ بداية عامنا الحالي سنجد التالي:
التوقيت و السياسة الخارجية لروسيا مؤخرا:
قلنا في المقال السابق أن الإقتصاد الروسي و للأسف يفتقدالتنوع الاقتصادي " diversification" أو يعتمد بصورة أساسية على مصدر دخل أساسي و هو النفط، لكن الجديد هنا في هذا المقال و منذ أن نشرت مقالي السابق هو أن أسعار النفط أخذت في الهبوط الحاد و الذي يتوقع أن يستمر في أدنى من مستوياتها الطبيعية حتى تاريخ كتابة هذا المقال، و بما أنه مصدر الدخل الأساسي لروسيا فهذا يضع عملتها المحلية في مهب الريح و و انعكس ذلك على الروس بصورة غلاء خاصة و أن الاقتصاد الروسي اقتصاد مستورد أكثر منه مصدر بما يضع عبئا متزايدا على المستوردين لتأمين العملة الصعبة، و يضع خزانة الدولة أمام موقف ستجبر من خلاله على استنفاذ احتياطياتها من العملة الصعبة بسرعة متزايدة و هذا قد بدأ يحدث بالفعل، ناهينا عن قدرة العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا منذ أكثر من العام في أن تحد من قدرة البنوك الروسية من الإقراض الذي هو عصب التنمية و تنامي الاقتصاد بما سبب حالة من "recession, stagnation" أو التراجع أو الكساد حطم سوق السيارات، و الموضة، و مستحضرات التجميل، و منتجات الغذاء خاصة الألبان  و اللحوم بصورة ملحوظة ، و السياحة للخارج و حطم العديد من الأسواق الأخرى بدرجات متفاوتة، فخلال هذا العام  - أو أكثر- الذي بين تاريخ كتابتي للتحليل السابق و الحالي سنجد أن سوق السيارات تراجع بنسبة فاقت الـ 48%، كما أن البنوك أصبحت أكثر تشددا في سياسات الإقراض لارتفاع نسب المخاطرة لانخفاض القدرة و الرغبة الشرائية للمستهلك بصورة ملحوظة. ناهينا عن أن العديد من البنوك الروسية و العديد من الشركات الروسية الضخمة قد أعلنت إفلاسها العام الماضي منها على سبيل المثال العملاق الروسي في مجال النقل الجوي "ترانس أيرو".
لكن النقطة الهامة عن توقيت تراجع أسعار النفط لاتزال تشكل سؤالا هاما جدا، و هو لماذا تواكب الانخفاض في أسعار النفط تحديدا مع وقت فرض العقوبات على روسيا؟ و أين يصب ذلك، و لمصلحة من؟
طبقا للعديد من التحليلات الروسية و العالمية خاصة المستقلة – و المنطق – سنجد أن الإجابة تكمن في الأسئلة نفسها عن المصالح، و التوقيت بالتوازي مع المشروع السياسي المعروف اصطلاحا "بنوفوروسيا" و الذي مفاده هو أن تعيد روسيا تمددها إلى كل الدول الناطقة باللغة الروسية أو أقاليم منها، و هذا ما تجلى من خلال أزمة القرم، بالإضافة إلى عوامل الأمن القومي الروسي الأخرى في محاولة احتواء المد الغربي الأمريكي و الناتو حول روسيا، و إذا ما أضفنا إلى ذلك الدعم الروسي لنظام بشار الأسد و التمسك به على عكس إرادة دول النفط المؤثرة عالميا التي تترأسها السعودية سنجد أن الإجابة قد اتضحت. بمعنى أنها محاولة للضغط على روسيا اقتصاديا إلى حد إفلاسها لعرقلة الطموح الروسي في الشرق الأوسط و العودة إليه، بما يقوض المشروع الإيراني الشيعي من جهة نظر دول السنة البترولية ذات التأثير، و كذلك تدمير القوة الاقتصادية لروسيا التي تدعم المشروع القومي حول روسيا ذاتها و بالقرب من أوروبا. بمعنى أشمل إعاقة عودة روسيا كقوة عالمية و وأد مشاريعها القومية و في الشرق الأوسط في المهد. إذا ليس من المصادفة حدوث ذلك التراجع في أسعار النفط بالتزامن مع العقوبات الاقتصادية على روسيا و التي ناقشناها تفصيلا في المقال السابق و الذي يمكن الرجوع إليه.
و لعل الأيام القليلة التي سبقت نشر هذه الدراسة قد أفصحت عن شيء قد يربط بصورة أو بأخرى ما أقوله بما حدث، و قد يثبت و جهة نظري في أن الدول العربية النفطية و على رأسها المملكة العربية السعودية تمارس نوع من الضغط الطويل المدى على روسيا اقتصاديا لتنهكها و تجعلها تتخلى عن نظام الرئيس بشار الأسد و لو بعد حين، و ها هو وزير الخارجية السعودي عبد الله الجبير قد طالعنا في شهر يوليو من هذا العام بتصريح تناقلته و كالات أنباء روسية و عربية بأن السعودية تقترح على روسيا – التي بدأ مفعول العقوبات و انخفاض أسعار النفط يرهق اقتصادها و بدأت في بيع و خصخصة الشركات الحكومية الكبيرة لها على الرغم من رفض الرئيس بوتين لهذه الفكرة منذ عام أو عامين – بأن تتخلى عن الرئيس الأسد مقابل شراكات و تعويضات هامة جدا ستجعل من روسيا في الشرق الأوسط أقوى مما كان عليه الإتحاد السوفيتي، مشددا الوزير على أنه من الحكمة أن تقبل موسكو هذا العرض و هي ما ريثما يمكنها ذلك.
إذا هذا هو التوقيت مرة أخرى، كما أنه يوحي بأن هناك افتعال متعمد لأزمة أسعار البترول لغرض ما معين و كلما بدت ملامح الإرهاق ترتسم على الاقتصاد الروسي يأتي من يذكر بالعرض الذي لم يعرض للمرة الأولى و إن كان هذه المرة أكثر سخاءا و جاء بعد معاناة بدأت تطول للاقتصاد الروسي. و سنتحدث فيما بعد عن الحلول و محاولاتها و التدابير التي تتخذها الإدارة الروسية للحد من تأثير انهيار أسعار النفط و العقوبات و سنناقش فرص كل ذلك.
تصريحات المسؤولين الروس و الواقع بين العام 2015 و بداية  2016:
كان من المتوقع أن كافة التصريحات و التحليلات يجب أن تكون إيجابية و مقللة من شأن الحجم الحقيقي للأزمة، و متفائلة، فمثلا في البداية كانت التصريحات و التحليلات تتمحور تلخيصا على:
أولا: سرعة ارتفاع أسعار النفط، فقد توقع الخبراء و المسؤولون الروس أن الأسعار ستشهد ارتفاعا في خلال عامين، و هي فترة غير كافية لتصل روسيا إلى الإفلاس أو إلى حد الخطر، و بما يخص الأسعار فلم يصرحوا بأن الأسعار ستنخفض أكثر و أكثر بصورة حادة و التي قد وصلت إلى حد 30 دولار للبرميل.
ثانيا: أن الدول النفطية الكبرى مثل المملكة السعودية لن تتحمل هذا الانخفاض لفترة تزيد عن السنتين بما سيدفعها إلى العمل على رفع الأسعار خاصة عن طريق تقليل إنتاجها من النفط أو تجميد حصص منه.
ثالثا: هو الدعاية المطردة للطموح الروسي في التحول إلى قوة عظمى.
رابعا: التروي إلى أن يخرج الإقتصاد الروسي من أزمته أشد قوة لاعتماده على نفسه و على الدول الصديقة بعد تنمية قدراته الذاتية و الإنتاج المحلي.
لكن حقيقة ما حدث هي:
أولا: سرعة ارتفاع أسعار النفط لم تحدث و إنما ما حدث هو العكس حتى العام الماضي و بداية العام الحالي، بما فاقم الأزمة بشدة على الاقتصاد الروسي. و حتى و إن كان صحيحا أن أسعار النفط قد شهدت ارتفاعا هذا العام لكن على الرغم من ارتفاعها بصورة ملحوظة هذا العام مقارنة بالعام الماضي فإن الأسعار لاتزال تحت المستوى الذي يؤمن لروسيا الحفاظ على عجز الموازنة و الإحتياطي النقدي و عوائد الضرائب، بمعنى أن الارتفاع الحالي لا يزال لا يمكن روسيا من الحفاظ على موزنتها طبقا لتحليلات الكثير من المسؤولين الروس الذين يروا أن روسيا ستصل إن لم تكن وصلت إلى حد الخطر إن لم يصل سعر البرميل إلى 70 دولارا، و ليس هذا فحسب، بل إن هذا السعر لن يفي بمستلزمات دفع عجلة التنمية في روسيا لتسير حتى بنفس المعدل حتى عام 2018 أو 2020 على أحسن الفروض! إذا إذا ما أرادت روسيا أن تستمر في تأمين الخدمات و البنية التحتية و الصحية و التعليمية و ما إلى خلافه يجب أن يكون سعر البرميل بما لا يقل عن الـ 80 دولارا قبل عام 2020 بحد أقصى، و هذا غير متوقع حتى هذه اللحظة.
و للغريب أنه منذ بداية هذا العام أخذت التصريحات المتفائلة في التغير بصورة حادة، فعلى سبيل المثال خرج رئيس الوزراء الروسي منذ فترة مصرحا بأنه على الروس التحضير لأسوء السيناريوهات المحتملة، بما قد يعني خفض النفقات، و التضييق أو الترشيد أو قطع الدعم عن بعض المؤسسات التعليمية و العاملة في قطاع الخدمات و البنية التحتية خاصة أن العديد منها حكومي- أو حتى الإفلاس و الذي أستبعده على المدى القريب للتدابير التي تتخذها الإدارة الروسية و لكن لا أنفي حدوثه. و في نفس اليوم خرج وزير المالية ليصرح بأن الاقتصاد الروسي يسير في اتجاه أزمة مماثلة لأزمته عام 1998، بمعنى الإفلاس. و إن كان ذلك غريبا في أن تتغير طبيعة التصريحات إلا أنه يعني أن الصورة الحقيقية قد تكون أسوء بكثير مما تبدو عليه و أن ما يخفيه المسؤولون أكبر مما صرحوا به .
و في تصرح حديث لرئيس الوزراء الروسي إبان زيارته لإقليم القرم و الذي انتشر على مواقع التواصل الإجتماعي بصورة صارخة لتنامي حالة الضيق و السخرية، و كان ردا على سؤال إحدى السيدات من ذوي المعاشات عن ضيق الحال و ضعف المعاش الشديد الذي لم يكن ليكفي أبسط لوازم الحياة الضرورية و الذي فقد أكثر من نصف قيمته مع تفاقم الأزمة و عما إذا ما كانت الدولة ستنقذ هذه الفئة، ليرد رئيس الوزراء صراحة بأنهم يريدون ذلك حقا و لكن لا يملكون المال اللازم له و تمنى لهم و لسكان القرم التوفيق ثم رحل!
ثانيا: أن الدول النفطية ذات التأثير الدولي لم تعمل على رفع أسعار النفط بالصورة التي علق عليها المسؤولون الروس آمالهم و لم تتأثر تلك الدول بنفس الدرجة لأسباب كثيرة، مما جعل المسؤولين الروس يغيروا من تصريحاتهم لتصبح : أن أسعار البترول لن ترتفع إلى حد يعتد به قبل السبع أو العشر سنوات القادمة – بعد أن كانا مجرد عامين انقضوا بالفعل- و في رأيي هي فترة أكثر من كافية لتفلس الإقتصاد الروسي إن لم تتخذ إجراءات عبقرية و جريئة لإنقاذه.
ثالثا: لا تزال الدعاية للطموح الروسي تتزايد و إن تركزت بعد العام الماضي على الحرب على الإرهاب و المشروع الأمريكي لتفتيت العالم و الشرق الأوسط و دور روسيا في مناهضته مع إلقاء اللوم على الغرب أحيانا، و هذا في رأيي صحيحا و حقيقيا، و لكن لا يعفي المسؤولين الروس عن دورهم في إيجاد حلول فعالة.
رابعا: بدأ يثبت أن الإقتصاد الروسي لن يستطيع أن يوفر رأس المال الكافي لكي يعتمد على ذاته بصورة كاملة و ينوع من مكوناته، فالبترول أصبحا أرخص من المياه، و الروبل أو العملة الروسية انهارت و عومت و فُقدت السيطرة عليها، و منعت البنوك الروسية من الاقتراض من الخارج لتأمين رؤوس الأموال اللازمة للاستثمارات الجديدة، مما دفع البنوك للتشدد في منح القروض، و إفلاس الكثير منها، و لتطال الأزمة أكبر بنكين حكوميين في روسيا الإتحادية ككل و هما "سبير بانك" و "في تي بي" و الذي أصبح بقاؤهما مرتبطا بالدعم الحكومي المقدر بمليارات الدولارات من خزانة الدولة بما يهدد الاحتياطي النقدي للبنك المركزي الذي استنزف أكثر من ربعه في في فترة وجيزة جدا منذ تطبيق العقوبات و انخفاض أسعار النفط حتى الربع الثاني من العام الماضي، و لعله اليوم في مرحلة لا يحسد عليها... ثم لتطالعنا الأخبار بأن الدولة تفكر في خصخصة أكبر بنكين و هذا يعني أن الدولة و البنك المركزي لا يمكنهما الاستمرار في تقديم الدعم المالي لهما بسبب الاحتياطي النقدي المهدد، لكن لا يجب أن ننسى أنه سيكون من الصعب خصخصة بنوك تحت العقوبات الدولية و لا منظور إيجابي لها في المستقبل القريب! إلا أن الرغبة في بيع و خصخصة البنوك و المؤسسات كما اتضح لاحقا هو جزء من خطة الحل التي سنتكلم عليها منفردة فيما بعد أو في الجزء الثالث للبحث.
كما أصبحت الدولة تفكر في تخفيض ميزانية التعليم عن طريق قطع المعونة الحكومية عن بعض الجامعات الهامة في روسيا بما سيضع المواطن الروسي تحت عبئ قد لا يطيقه! و لا أعلم لماذا لم تخفض ميزانية الدفاع التي تضاعفت بشدة منذ أن بدأت الأزمة، و على كل حال فقد تم بالفعل قطع المعونات عن الكثير من المؤسسات التعليمية خاصة العليا منها و تسريح آلاف الموظفين من وزارة الداخلية، و الإعلان عن تخفيض الميزانية الدفاعية على الرغم من أن كثير من المؤشرات تقول عكس ذلك، منها تشكيل تشكيلات قتالية جديدة للجيش الروسي للخدمة على الحدود الغربية، لمواجهة انتشار حلف الناتو في دول أوروبا الشرقية، و منها تشكيل نوع جديد من الأجهزة الأمنية التي تعرف بجهاز الحرس الوطني الذي ضم الآلاف من الموظفين و الضباط و الجنود.
أما الدول الصديقة لروسيا التي عول عليها ففي مقدمتها الصين، لكن لسوء الحظ سنجد أن الصين أصبحت تعاني من تراجع اقتصادي حاد منذ أن أعلن عن شراكتها الاقتصادية لروسيا، مما جعل الصين تراجع بعض الإجراءات و التدابير الإقتصادية أو التباطؤ في بعضها و التي انعكست على الاقتصاد الروسي بوضوح، بالإضافة إلى أن الصين لازالت تسعى للحفاظ على حيادها بين الكتلتين، أما عن باقي الدول ذات العلاقات الطيبة مع روسيا مثل مصر و بعض دول أمريكا الجنوبية فالشراكات مع هذه الدول تمثل أنبوب الأوكسوجين الذي يتنفس من خلاله الإقتصاد الروسي الآخذ في الاختناق ببطئ، على صورة مشاريع مشتركة بتسهيلات متميزة تعزز من صورة و دور روسيا العالميين، و صفقات سلاح هنا و هناك، لكن يبدو أن كل ذلك غير كافي و إنما يحد من سرعة الإنهيار حتى تتبدل الأمور.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق