سامحونا/ ايمان الدرع

حدّق بركات مليّاً في معالم غرفته، قبل أن يغادرها..وأسرته، إلى مسكنه الجديد..مطمئنّاً إلى نظافة جدرانها..والبلاط .
متأملاًّ أغراضه المتواضعة، المتكدّسة في أكياس من النايلون، وفي علب كرتونية..تمّ إلصاق أطرافها بلاصقٍ شفافٍ، عريضٍ.
كانت زوجه قربه، تئنّ من التعب، وقد أسندتْ ظهرها إلى الحائط، ترتاح هنيهة، بينما كان ولداها يغالبان النعاس..في صبحٍ دافئ، يغري بالنوم، بعد شتاءٍ عاصف طويل..
سألها: ــــ هل فصلْتِ يا هند أغراض الجار، عن أغراضنا؟؟!! قبل أن أستدعي صاحب ( السوزوكي) ليقلّنا ..؟؟!!!
أجابته بثقة: ـــ أجل بركات، كلّ ما يخصّهم، جمعته في الردهة الصغيرة، الفاصلة بين الغرف..
فهبّ من فوره، ينقر على باب صاحب البيت..يناديه..:
ــــ أخي فوّاز...صباح الخير..تعال لو سمحت..
وعندما توضّح المشهد..سأله صاحب الدار مستنكراً:
لمَ يا صاحبي التعجّل في إخلاء الغرفة، أنت في دارك، بين أهلك يا أخي؟؟!! لن تغادر قبل أن أطمئنّ على وضع بلدتك، إلى أين ستذهب بهم، والنار مازالت تستعر حول دارك هناك!!
أجابه تتلعثم به حروف الامتنان..حيث أربكته، وشعربها أنها أكبر من أن تقال:
ـــ يا أخي فوّاز..لقد فضّلت عليّ، لن أنسى وقفتك معي ما حييت..ولكن بعد خروج أبويّ العجوزين، وشقيقاتي ..من الدار ـ بمعجزةٍ ـ رأينا أن نستأجر معاً، شقّة صغيرة، متواضعة، في حيّ ( ركن الدين ) أخلاها لنا ابن عمي..بعد هجرته إلى بلاد بعيدة..
قاطعه فواز تغلّف اللهفة انفعاله:
ــــــ طيّب اصحبهم معك إلى هنا ..سنقوم برعايتهم، وكأنهم منا ..ثق بذلك..
ــــــ أيها الرجل الشهم، لقد درسنا الأمر جيداً..وعملنا حساباً لكلّ الاحتمالات، ثم إن المكان قريب من شركة الصيانة التي أعمل بها، فالحواجز التي أقطعها في طريقي إلى العمل، والعودة منه..تأخذ مني ساعات طويلة..
ألا يكفي يا أخي..؟؟!!! سنتان..وغرفة ضيوفك التي خصصتها لنا، محجوزة من أجلنا، والكنب فيها متوضّع..بعضه فوق بعض، محشور في ركن معتم، من بيتك، عششت به غبار، لم تستطع الأغطية التي تجلّله، من منعها..
سنتان..وأنت تستقبل ضيوفك، في غرفة المعيشة، بين أهل بيتك، رغم ما يسبب لهم ذلك من إحراج، وتقييد حرية.. كي تستضيفنا...لن نثقل عليكم أكثر من ذلك..
احتدّ فواز مقاطعاً من جديد:
ـــ ولكن هل من أحد تضجّر، أو اشتكى من ذلك؟! اصمت بالله عليك..هذا أقل من الواجب، لقد أحببناك لحسن خلقك، لمراعاتك حقّ الجوار، بإحساسٍ شديدٍ مهذّب، للهفتك في تأمين ما يلزمنا من أغراض ..على طريق عودتك..أنسيت مبادراتك في تصليح أعطال الماء، والكهرباء، وصيانة أجهزة التكييف، والتبريد..للجوار.أنت أيضاً جوهرة نادرة.؟؟!!
ـــ والله كنت أقوم بذلك عن طيب خاطر، لعجزي عن تقديم ما يردّ لهفتك علينا..لقد سددْتَ لي هذا الشرخ الكبير الذي دمّر ذاتي، حيث استقبلتموني في أحرج أوقات عمري، حين كنت أهيم على وجهي، مع أسرتي: لامال، لا أهل، لامتاع يكفي، لا أعرف أين أمضي، فكنتم لي العائلة البديلة التي سترت عرضي، وحمت ولديّ الصغيرين من التشرّد، اقتسمتم معنا لقمة العيش، وأغراض السكن...وصرنا ننام تحت سقف آمن. ندعو الله صباح مساء ، أن يبقى آمنا.....يحفظ ماء الوجه..ويمنحنا الكرامة، و يبعد عنا ...ذلّ السؤال.
ولما دمعت العيون..هرب إلى ابتسامةٍ خاطفةٍ كي يتخلّص من موقف موجع، فرضته لحظات الوداع:
ــــــ ولكن لست أدري لم َ لم تحتملنا العمة // نجلااا // الساكنة في الطابق الأول..إني أشبهها بــ / شيخ الغفر // ترصد تحركات من يصعد، ويهبط على الدرج...ترهف السمع، إلى كل حدث في العمارة، مهما كان صغيرا..دائمة التذمر..تكره الصخب...لا تكفّ عن تقريع الأولاد الصغار، القاطنين في الشقق حولها، حتى شكّلتْ لهم عقدة..يخافون منها.
ــــ لاعليك يا صاحبي رغم ذلك هي هشّة من الداخل، سريعة البكاء، سرعتها في الغضب
ـــــ أعرف .. أعرف...والله إني أحبها، وأحتملها كوالدتي، وأحرص على إرضائها...كنت أعرف أن لديها اهتمامان: نظافة بيتها، والدرج...وخدمة زوجها العجوز شبه العاجز.الذي لم يبق الوجع له مكاناً، إلا واستوطنه...
وكم حملتُ عنها خرطوم المياه، وأخذت عنها مهمة شطف الدرج..حتى ترضى...كنت أفوز منها ببسمة رضا...ولو كانت ضنينة...ولكنها أبدا...لم تستطع منح ولدي / أنس/ هذه الهبة...فقد كانت له بالمرصاد..وكان رغم مشاغبته المواربة، المستفزة ببراءة ، أحايين كثيرة..دائم الرعب منها...يحتمي في حضن أمه..كلما لحقت به معنّفة، متذمرة...متوعدّة.
ضحكا معاً.. بينما كانت (هند) تمشّط شعر ابنتها، تحزم ضفائرها، بشرائط لامعة..تحكي لهم المزيد من المواقف الطريفة التي عاشوها مع العمة (نجلاء)...
وقد دخلت حينها ..زوج صاحب الدار..تروي بدموعها ما ينطق عن لحظات وداع فارقة..لأشخاص لن يتركوا الدار كما دخلوها للمرة الأولى...فهناك قواسم مشتركة، وذكريات..حفرت عميقاً في الوجدان، آختْ بينهم..ووحدتْ دموعهم، وابتساماتهم...فيها عاشوا لحظات الرعب، ولحظات الفرج المأمول...وفيها حلموا بأعيادٍ، ليست كالتي مرت بهم، تأتي على استحياء...وتغادر بحسرةٍ، طاعنة النزف.
زمور (السوزوكي) يعلن عن وصول السائق...وبدأت معه مهمة تنزيل الأغراض، لشحنها.
فتولّى بعض الشبان اليافعين نقلها، بينما قام (عماد ) الشاب الأسمر الضخم..يتناولها، يحزّمها في زاوية الشاحنة...حرصا على وصولها بشكل سليم..
وعند الوداع، تطايرت مشاعر محبةٍ، غارقة في الشريان الذي وحدته ظروف استثنائية، في موقف اسثنائي...يختزل جرح البلد..بكل مواجعه، وتآخيه..وينابيع الخير فيه.
وقبل أن تترنح بهم السيارة ملوّحين...استوقفهم صوت ليس بغريب...صوت ألفوه جيدا..
صوت العمة / نجلاااا / ...وقد خالطتْه رنّة حزنٍ مبحوح.. ـــــ .قفوا لحظة..
قالتها، وهي تمسح الدمع عن وجنتيها المتغضنتين.......ملتفتة إلى / بركات / :
ــ أهذا هو قراركم الأخير::؟؟!! أما من طريقة للبقاء...؟؟!!!
ووسط ذهول الجميع أجابها (بركات) بحنوّ :
ـــ كنت أتمنى ياعمة...ولكن للضرورة أحكام...سأزوركم كلما أتيح لي، لن أنقطع عنكم..بإذن الله...مااستطعت إلى ذلك سبيلا..ثقي بي ياعمّة..وسامحونا جميعكم... سامحونااااا ....خاصة أنت ياعمة..أنسيت مشاغبات ولدي (أنس)...وآثار أقدامه المتسخة .على الأدراج،.بعد لعبه بالكرة في الشارع..مع أولاد الحي...؟! والله تحملت منه الكثير..
ــــ ليتكم تبقون ياعمّة...وأنا على استعداد أن أنظف الدرج باستمرار...لن أعاتبكم...والله لن أعاتبكم
وتوجهتْ نحو الطفل ( أنس) تضمّه بحنانٍ... وقد استسلم لعناقها بحذرٍ، وعيناه ترقبان ( لعبة جميلة) ....تشبّثتْ بها أصابعه، غير مصدّقٍ... قدمتها إليه..كانت قد احتفظت بها منذ أمد طويييييييل..لطفلٍ لم تنجبه...

الأديبة السورية / ايمان الدرع

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق