مضيعة للوقت/ نعمان عبد القادر

قصّة قصيرة

أدرك أن الوقت عنده أغلى من الذهب الخالص ومن تراب الأرض، ولهذا اتخذ قرارًا حكيمًا صائبًا جديدًا ينصّ على أن يبدأ يومه الجديد بالمحافظة على الوقت واستغلاله بالكامل في "البحوث" وأن لا يضيع منه شيئًا. نصح أصحابه باتّباع نهجه فقالوا له: أتتخذنا هزوًا، إنا نعوذ بك ومن جهلك إنا نراك من الضّالين. غضب وانبرى يطوف على النّاس من بيتٍ إلى بيتٍ ومن زقاق إلى زقاق ومن حارة إلى حارة يخطب فيهم ويناديهم بأعلى صوته: أيها النّاس! صدّقوني! الوقت أصدق إنباءً من اللعب في حدّه الحدّ بين الصدقِ والكذبِ. أعرض الناس عنه فكذّبوه، فقال قائل منهم وهو أبلغهم في الخطابة: "خسئتَ أيّها الرّجل، أتتّخذنا هزوًا، هذا ما وجدنا عليه من آبائنا، وهذه هي بضاعتنا نتاجر بها ونفخر بها وهي من تراثنا، اذهب أنت ووقتك إلى حيثما شئتما إننا ها هنا قاعدون". ولما جنّ الليل وخلت الشّوارع من النّاس وجد نفسه يسير وحيدًا في إحدى حارات البلدة، وكان سكانها نائمين وهم من الطبقة المتعلّمة، والعرق يسيل على خدّيه، فشاهد امرأة طويلة القامة، أطول من النخلة، تلبس ثوبًا أبيض فضفاضًا متلثّمة بلثامٍ لا تكاد ترى حتى عيناها، قادمة من جهة الجنوب تسير بخطىً ثابتة تحمل على رأسها دلوًا كبيرًا مغطىً بقطعة قماش، ما إن أقتربت منه حتّى تقدّم منها دونما خوفٍ أو وجلٍ وسألها، من أنتِ؟ وماذا تحملين على رأسك يا أمة الله؟ ولماذا تخرجين في هذا الوقت المتأخر من الليل؟
 أجابته دون تردد: أنا سيّدة النّاس من بلاد الله الواسعة وأحملُ شيئًا خفيفًا لا ينضب أبدًا. يحبّه الناس وأنثر منه كلّ يوم على عتبات البيوت. من يشمه يشعر بالسعادة وتنكشف له الحجب. واسمه الوهم. تقدّم منها صائحًا بغضبٍ وهو يلوّح بيده يحاول ضربها قائلا: قاتلك الله يا فاجرة. أتستغفلين "بساطة الناس" ولا تخشين الله. إنك من الفاسدين.
ما كاد يكمل كلامه حتى نثرت في وجهه حفنة من زهراتها فاستنشق رائحتها وشعر بلذة عجيبة وأحس بالسعادة فانكشفت له صورٌ عجيبةٌ لم ير مثلها من قبل، وعاد يضيع أوقاته باللعب على شاشات جواله الذكي المصنوع في بلاد الغرب، وصار من "المجتهدين الفائزين".

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق