الشوارعُ تحيضُ.. تمسحُ أحذيةَ الغزو/ كريم عبدالله

نشازٌ متسمّرٌ
                    في لوحِ صباحاتٍ مزمنةٍ
                                              بالذهول ...
                       شيخوخة ليلٍ طويلٍ
    يرشقُ الأحلامَ
 بــ الشخير ...
 عقربٌ أرعنٌ
               نحوَ الهاويةِ
                       يتجهُ بــ المواعيد
    الأيامُ المنتفخة
مكدّسةٌ
بلا مأوى
 تنتهكها
طاحونة جائعة ....
 تبصقُ الشمسَ
                   اشلاءَ
              خيانةِ آلهةٍ تغلُّ
سنابلَ نيسان ...
 وأشجارُ النخيلِ
عانساتٌ للآنَ
 العراجينَ تتشاجرُ بصوتٍ عال .............
هذا الأفق
 تحاصرهُ
مخالبٌ تعتصرُ
               فاكهةَ اليقين ...
       فتّنتها
 تأسرُ الطبّالينَ
 بــ السيئاتِ الناضجةِ
 خلفَ نواعيرِ النفايات ...
 لا خرائطَ للتواريخِ
                        وسيقانها غارقةً بـــ وحلِ الشموخ .....
الشوارعُ تحيضُ
          بـــ توابيتٍ حمراءَ ,
                                  بيضاءَ ,
                                           خضراءَ
                            
 وسوداء ..
 القناديلُ المعتمةِ
            تتلثّمُ في رحمِ الخوفِ المسودّ ..
 حينها أسندَ الضمير مؤخرتهُ
 على جدارٍ منهكٍ أعزل ......
 وراحَ ينشدُ
 مواويلَ الخسوف .....................................:

بغداد
العراق
**
 كتبت الناقدة والفنانة التشكيلية / خيرة مبروكي .. / من تونس

قصيدة جديدة للشاعر كريم عبد الله "الشوارع تحيض ....تمسح أحذية الغزو " خطاب شعري مثقل بالرموز متعدد الأبعاد به طاقات تعبيرية استطاع أن ينتج المدلول ويوضحه ..ولعل أبرز هذه الطاقات الإيقاع ..ولكنه ليس بالإيقاع الناشئ عن السمع والصوت بل هو آخر يتأرجح بين إيقاع البصر وإيقاع الدلالة  والصورة ..
وأول ما يطالعنا في هذا انسيج الممتد العنوان ..ومن خلاله يضعنا الشاعر أمام حيرة البحث في هذا التخطي لمألوف العنونة ..فلم يعد العنوان مجرد مبتدأ يخبر عنه المتن بل يتجاوز ذلك ..فهو يمارس تأثيره السحري ..ويجعلنا نقف على طاقات النص الخبيئة وأبعاده ورموزه فنستشرف من خلاله رغبة صاحبه في تقديم تشكيل جديد للواقع والفن ..فقد قام العنوان على أساس الانزياح الذي لا يظهر في خرق نظام اللغة والتركيب المتعارف عليهما فحسب بل أيضا داخل الأبنية النصية ، ومن خلال العلاقات التي تنسجها الألفاظ في ما بينها من ناحية ، وبينها وبين السياق من ناحية ثانية ..لقد بني على أساس استعارة تجاوز من خلالها التعبير عن معاناة الواقع وأسنه إلى التأكيد على نجاسته فهو ملحف بالرجس ويتأكد المعنى بالجملة الثانية "تمسح أحذية الغزو " ليأخذ الرجس بعدا آخر مفارقا ، فحيض الشوارع يقترن بأحذية الغزو ..هنا قد نبحث عن ضروب الانسجام الذي يختفي وراء هذا التنافر في المعنى والتقابل ..وهذه العناصر وإن تباعدت ظاهريا فهي ترجع إلى معاجم ثلاثة ..المكان وأسنه والغزو ..وهو السياق الذي يستبطنه المتن الشعري ..بهذا فالعنوان لا يختزل المعنى فقط بل يتجاوزه إلى إظهار مشروع الشاعر الشعري ومظاهر التصرف في اللغة وتجاوز علاقاتها الأيقونية ..وذلك له ارتباط بالثالوث الذي قام عليه العنوان ..فقد ارتبط المكان بالنشاز المستمر والطواحين الجائعة التي تنتهك المأوى وتبصق الشمس أشلاء .. هوإطار مزمن بالذهول ..في وطن عنست سنابله وشاخت نخيله وفقدت العروش الباسقات ألقها ..وتشاجرت عراجينها ..وعلقت جذورها بالوحل ..وهذا إنما يدلل على الواقع المشحون بالخلافات المنتهكة بالتلاوات الخاطفة .. هو المكان - الموت بوجهه المكشر المنكسر ..بالسيئات الناضجة خلف نواعير النفايات ..تحيض شوارها بتوابيت حمراء ..بيضاء ..خضراء ..وسوداء ..وهنا يستحضر معجم الألوان الذي يحمل جملة من الدلالات ..لقد ارتبط بالتوابيت .. وهي الوجه الآخر للموت ..وقد يعبر عنه اللون الأحمر ..لون الدم الطبيعي ..كما يحيلنا اللون الأبيض على نفس المعنى وقد يكني على موصوف وهو الكفن ...كما قد يوحي بضبابية الواقع ..أما الأخضر فلعله لون الشهادة ..وموت الأبرياء الذين يتحملون ذنوب الخوف المسودّ والضمير المنهك التائه وراء مواويل الخسوف ..ليكون اللون الأسود ..لون الحزن يكشف عن الذات الممجوجة بالقسوة والمعاناة ..بقناديلها المعتمة ..إنه الموت الجاثم على فاكهة اليقين ..على الأعين الحائرة المطفأة بالنزيف ..هنا لعل مفهوم السفر لم ينعدم كأهم مقوم من مقومات القصيدة الحديثة ..ولكنه سفر في المكان -الموت ..سفر كالنزيف على أشلاء جثة عفنة ..سفر مقفل لا نقف له على حركة ..ثابت ثبوت الشر ....فهل بإمكان الشاعر أن يفلت من الأرض- الموات .. أم أن مصيره هو مصير خرائط هذا الوطن مبعثرة وسيقانها غارقة بوحل الشموخ .. هنا قد يكون تعويضه عن هذا الواقع بهذا السفر داخل الكيان الشعري الذي ندركه بهذه الأسطر الشعرية المتحركة التي أتخذت أشكالا مختلفة .. لعلها طرائق الشاعر في التعبير .. بهذا يتراءى لنا الاهتمام بفضاء الصفحة كإيقاع بصري قادر على إنشاء المعنى .. فلم تعد اللغة وحدها محور اهتمامه وإنما باتت معمارية القصيدة محط اشتغاله .. وهو المرئي المقروء .. بهذا فقد عبر الشاعر عن هذا التبرم والرفض عبر طاقات شعورية تختلف من مقطع إلى آخر وتتلبس بأشكال مختلفة وكأنه نوع من الحوار الصامت بين اللغة والفراغ .. بين السواد والبياض وهو ما يجعل منها علاقة كر وفر .. تنزاح الأسطر عن مواقعها الأصلية وتشكل أشكالا متنوعة .. وهذا من شأنه أن يفصح عما سكتت عنه اللغة .. فتستحيل بُنى صامتة تخفي وراءها جملة من البُنى الناطقة فتكشف عن الأفكار الحبيسة والرغبات الممنوعة بضغوط الواقع وبذلك تمنح القارئ حرية أكبر في التأويل وتجعله يشارك في فعل الكتابة بملء الفراغات وإنطاق الصمت ومساءلة المعاني ....

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق