الجَّوَاهِرِي خَطْفَاً... صِرَاعَاتُهُ مَعَ مَوْلِدِهِ وَسَاطِعِهِ وَنَفْسِهِ وَهَاشِمِيِّهِ ـ الحلقة الثالثة / كريم مرزة الأسدي

 وَلَيْسَ بِحُرً مَنْ إذَا رَامَ غَايَةَ ً***تَخَوَّفَ  أنْ تَرْمِـــي بِهِ مَســـْلَكَاً وَعْـرَا
وما أنتَ بالمعطي التّمرّدَ حقّهُ *** إذا كنتّ تخشى أنْ تجوعَ وأنْ تعرى
وهلْ غيرّ هذا ترتجي من مواطن ٍ**تريدُ على أوضاعها ثورة ً كبـــرى

مرّ عليك في حلقتنا الأولى عن جواهرينا أنّ ولادته الميمونة كانت في (26 تموز 1899م / 17 ربيع الأول 1317هـ) ،  وعلى أغلب الظن ما دوناه هوالأصح ،  رغم ما نقل الدكتور عبد الرضا علي وغيره عن (فرات الجواهري) النجل الكبيرللشاعر الأكبر ، إنّ الأخير فتح عينه للحياة في " 23 /7/ 1895م وكلُّ ما عداه ليس صحيحاً " (1) ، ولماذا رأينا  الأصوب  ؟ لئنَّ ولادة أخ الشاعر الأكبر عبد العزيز ، الذي يزيده تسع سنوات عمراً  ،  كانت في (1308 هـ / 1890م) ،  وفق ما ثبتها السيد جعفر الحلي  الشاعر الشهير (توفي 1315 هـ /1897م) في بيتيه الآتيين اللذين توجه بهما إلى والده  الشيخ عبد الحسين الجواهري ( 1281 هـ / 1864م -- 1335 هـ / 1916م) :
بشراكمُ هذا غلامٌ لكمْ***مثل الذي بشر فيهِ (العزيزْ )
سمعاً أباه أنّ تاريخه ** أعقبتْ يا بشراكَ عبد العزيزْ
ومن الجدير ذكره أنّ الشيخ علي الشرقي الشاعر الشهير ،  هو ابن عمّة الجواهري، تربيا معاً في بيت واحد بداية حياتيهما ، ويعتبر الأخ الأكبرللجواهري ، ولد أيضا سنة   (1890 م) ، بعد عبد العزيز بعدة أشهر ،  والجواهري يزعم أنه أصغر من أخيه (العزيز) اثنتي عشرة سنة (2)  ، وهذا أيضا غير دقيق ،   والدقيق ما دونه الباحث القدير الشيخ جعفر محبوبة في (ماضي النجف وحاضرها) بالتاريخ الهجري، وحوّلناه إلى التاريخ الميلادي ،  و اعتمدناه بعد جهد وتدقيق  ، خلف الشيخ عبد الحسين الجواهري أربعة أولاد  وبنت واحدة  ، وحسب التسلسل العمري ، من الكبير إلى الصغير : عبد العزيز - محمد مهدي (الشاعر) -  هادي (المنتحر 1917م) - أختهم المدفونة في السيدة زينب - الشهيد جعفر (ت 1948).           
ثم ماذا..؟ نعود والعود أحمد !  لماذا رصّع شيخنا  هذين البيتين المعبرين  بادئاً ذي بدء :
 أزحْ عن صدركَ الزّبدا ***ودعهُ يبثُّ ما وجدا
وخلِّ حطـــــامَ مَوْجدةٍ *** تناثرُ فوقــــهُ قصَدا
تعال معي لنتحادث خاطفاً ، والحكم لله ... يرى الجواهري أنّ مابين عمامه أجداده وجذوره الدينية  ، وعراقة عائلته النجفية  وتطلعه الأدبي - وإلاّ لم يكن هو سوى معلم بسيط - وبين " ملف..ساطع بك " يقصد ساطع الحصري (1) وبعض الملتفين حوله ،أزمة كبرى  ، طرقت أبواب عصبة الآمم ،  وكتب عنها مَنْ كتب  من كبار السياسيين والكتاب ،  بما فيهم الحصري نفسه  ، لذلك يقتضي الرد عليها ،  بل الأفاضة  فيها ،  فأطال ونعتهم بوصف قاس ٍمرير ،  نتركه لـ (ذكرياتي) ، فالرجل متأزم منها  حتى الممات ،  أمّا الشعرة التي قصمت ظهر البعير ،  والسبب الذي أدلع نيران الحرب بينهما  بيت شعر ورد في قصيدة مشحونة بالحنين إلى العراق إبان زيارته الثانية إلى إيران (1926م) مطلعها :
هبَّ النسيبُ فهبتِ الأشـــــواقُ*** وهفا إليكمْ قلبُهُ الخفـّــــاقُ
والبيت القضية ،  أوالأزمة المستعصية يقول :
لي في العراق ِعصابة ٌ لولاهمُ *** ما كان محبوباً إليَّ عراقُ
وهل العراق إلا بأهله؟ وهل الإنسان إلا بالإنسان ؟ ! ألم يقلْ قيس ليلى من قديمٍ :
مرررّتُ على الديار ِديار ليلى****أقبلُ ذا الجدارا وذا الجدارا
ومـــا حبُ الديار ِ شغفنَ قلبي *** ولكنْ حبّ مَنْ سكنَ الدّيارا
وأيضاَ الأستاذ (ساطع الحصري)  ،  لم ينسَ المشكلة حتى وفاته ، وذكرها في ( مذكراته ) الصادر سنة 1967م  ،  ما كان لهذه القضية التي تقاذف بها الطرفان بتهمتي الشعوبية والطائفية ، أنْ تأخذ هذا المدى الواسع , لولا الجذور التاريخية المريضة لحالة العراق والأمة الإجتماعية ، وتطرق إليها العالم الإجتماعي الدكتورعلي الوردي في العديد من مؤلفاته القيمة.
وربّ ضارة نافعة ،  وربَّ نافعة ضارة ! دفعت هذه المشكلة الشيخ (جواد الجواهري ) ،  أن يفاتح  الشخصية النافذة في الحكم و البارزة في المجتمع السيد (محمد الصدر) لحلحلتها ، فتدخل لدى الملك (فيصل الأول ) ، وتمّ تعيين الشاب المعمم النحيف ، والأديب اللطيف ،  ابن الثامنة والعشرين - وإنْ ذهب الشاعر للتصغير ! - في البلاط الملكي ،  وذلك سنة 1927م ، وهذه المرحلة  ربما يراها شيخنا جديرة بالتدوين ،  وفاءً لصاحب الجلالة  ،  ومباهاة ً بزهو الإنتصار، وانتقالا لواقع حال ٍجديد فوجد نفسه بين دهاليز السياسيين ، ومجالس الأنس، ومنتديات الأدب ،  العمامة على رأسه ،  وبين يديه كأسه ، رمى العمامة وركب الهول :
وأركبُ الهول في ريعان ِ مأمنةٍ*** حبّ الحياة بحبِّ الموتِ يغريني   
         نعم مرحلة مهمة في حياته ،  وضعته بين بين ،  وعلى مفترق الطرق ،  بين إرضاء الحكّام ونزواتهم  ،  أوالوقوف مع إرادة الجماهير وتطلعاتهم  ،  معادلة صعبة  ،  وتوازن رهيب ، ولحظات حرجة  ،  تارة ً يعترف بتقصيره :
تحوّلتُ من طبع ٍ لآخرِ ضدهُ ***من الشيمةِ الحسناءِ للشيمةِ النكرا
ومرات  يتمرّد على نفسه ،  وينتفض  طافرا لسبيله :
وليس بحرً مـــنْ إذا رامَ غايـةَ ً***تخوّفَ أنْ ترمي بهِ مســـلكاً وعـرا
وما أنتَ بالمعطي التّمرّدَ حقـهُ *** إذاكنتّ تخشى أنْ تجوعَ وأنْ تعرى
وهلْ غيرّ هذا ترتجي من مواطن ٍ**تريدُ على أوضاعها ثورة ً كبـــرى
فمن ثورته الجواهرية الكبرى  قصيدته (الرجعيون) التي نظمها سنة (1929)  ، إثر المعارضة المتشددة لفتح مدرسة للبنات في مدينته  ،  مدينة النجف الأشرف ،  ونشرتها جريدة (العراق)  ،  ولم يُرعبها ( لصوصٌ ولاطة ٌ وزناة ُ)  ، وبعدها ( جربيني ) من (ضد الجمهور... في الدين ) إلى (بداعة التكوين)  ،   و (النزغة) من (أصفق كاسه ) حتى ( يُملي " طباقه !" و " جناسه" )  ، ما هكذا العهد بين الطرفين ، وشتان بين (البلاط) و ( الملاط) !!
فما كان ( الثائر)  بقادر ٍ على الترف المقيد ، و العرف المزيف ، فطفر من البلاط الملكي اللطيف إلى الصراط الصحفي المخيف، فطغت عليه صحيفته (الفرات ) ( منتصف 1930)  ،  ولم  تتجاوزعشرين عددا منها حتى غلقت أبوابها أمامه  ،  وبعد  الفوات  لم يرَ نفسه إلا بين المحاكم والغرامات ، والمشاحنات والعداوات ، ومهنة المتاعب والتيارات حتى أوائل الستينات ،  وما بينهما عاش الفاقة والحصار لثلاث سنوات ، إذْ ضمّه ( جلالته) تحت رحمة قائمته السوداء ! :
فمن عجب ٍأنْ يمنح الرزق وادعٌ ***ويمنعهُ ثبت الجنان مغامرُ
وما هذا بعجبٍ ، وإنمّا سنـّة الخلق ، وطبيعة الحياة  ،  ولا تذهب بك الظنون - أنت أيّها القارىء الكريم - إلى أنّ الصحافة وحدها سبب هذا البلاء ، صاحبنا الشيخ الكبير كان يحركه  دافعٌ غريزي قوي للعيش بلذة على حافة الخطر ،  وهاوية القدر ، فهو على هذا الحال،يركض نحو الأهوال ، فينظم (حالنا اليوم  أو في سبيل الحكم) ، وهي قصيدة قاسية ومريرة ضد الحكم القائم حينذاك ، عندما إندلعت نيران المعارك المؤلمة بين عشائر الفرات الأوسط بتحريض من الساسة الكبار عام 1935م ،  إذْ كانت  وزارة (ياسين الهاشمي) الثانية في أوج عنفوانها :
ولم يبقّ معنى للمناصب عندنا***سوى أنها ملك القريبِ المصاهر ِ
وكانتْ طباعٌ للعشائر ترتجـى *** فقدْ لوّثتْ حتى طباع ُ العشــــائر ِ
بالرغم من أنّ السيد الهاشمي كان مؤمناً بحرية الصحافة ، وصراحة القول - والحق يقال - ،  ولكن ربما لإضطراب الأوضاع ، وخشية من تأجيج الأوجاع  ، غُلقت الصحيفة الناشرة (الإصلاح) ،  وأُقيمت  الدعوى على الشاعر الثائر  ،  وصاحب الجريدة العاثر  ،  وبإيعاز ملعوب أجلت القضية ، ومن ثم أُلغيت الدعوى ،  و استدعى الهاشمي الجواهري ليساومه على عضوية مجلس النواب  ، مقابل دعم الأخير للأول  ، أو سكوته على الأقل ،  ورفض دولة الرئيس طلباً للشاعر بإيفاده للخارج بإلحاح ٍ فامتناع !  ،  ولم يعلن اسمه  كمرشح للمجلس، ولم تتم الصفقة ،  ولا إيفاده المعشوق إيفاد ، ضيع المشيتين ، وبعد يوم من إعلان اسماء المرشحين ، يعلن الفريق ( بكر صدقي ) إنقلابه على (الهاشمي ياسين) ( تشرين الأول 1936م) ، ويُصدر شيخنا الشاب صحيفته ( الإنقلاب ) مناصرة ،  بل ناطقة بلسان الإنقلاب  ،  فجبلته بُنيت لمساندة كل تمرد ، أو انتفاضة وطنية محقـّة ،  أو ثورة شعبية صادقة ،  فحسَبَ الجماعة المنقلبة من العادلين المحقين الصادقين ،  ولم يخفت ظنـّه الحسن من بعدُ، حتى قال في ثورة ( 14 تموز ) :" جيش العراقِ ولم أزلْ بكَ مؤمنا "  ،  وما ( لم أزلْ ) إلا استمرارية (لما مضى ) ،  لو كنتم تعلمون !!   فلكلّ جديد لذة  ورنـّة ،  وبأنـّه " الأملُ المُرجى والمنى " !
 ثمّ أنـّه عدَّ صاحبه الهاشميَّ قد نكث العهد معه ، وغدر به ،  فواحدة بواحدة !  وكان  ممن مدحه سابقا  بقصيدة مطلعها :
عليكم وإنْ طال الرجاء المعوّلُ***وفي يدكمْ تحقيقُ ما يُتأملُ
وأنتمْ أخيرٌ فـــي ادّعاءٍ ومطمعٍ ٍ** وأنتمْ إذا عُدَّ لميـامين أولُ
ويبدو لك  من العجيب ، قد رثاه أيضاً بعد وفاته ،  ومما قال:       
ناصبتُ حكمك غاضباً فوجدتني ***بأزاءِ شهم ٍ في الخصام ِ كريم ِ
كمْ فترةٍ دهتِ العـــراقَ عصيبة ***  فرّجتها بدهائــــــــــكّ المعلوم ِ
 ومن المعلوم أنَ (ياسين الهاشمي ) ،  غادرالعراق إبان إنقلاب بكر صدقي ، متوجهاً إلى بيروت ،وتوفي فيها سنة 1937م  ، ثم نقل جثمانه إلى دمشق ، ليدفن جنب ضريح صلاح الدين الأيوبي , وربما جاء الرثاء لرد الاعتبار أو شبه اعتذار ،  أو كما قيل :
دعوتُ على عَمْر ٍفلما فقدتهُ ***بليتُ بأقوام ٍبكيتُ بكيت على عَمْر ِ
و( عَمرو ) تـُحذف واوها في الشعر عند تنوينها ،  فحذفتها ،  وحركتها ،  المهم الحقيقة  أنَّ الهاشمي ياسين - كان أخوه طه الهاشمي رئيساً لأركان الجيش في عهده، وإبان الانقلاب كان في زيارة للأردن - رجلٌ سياسي داهية باعتراف الجواهري نفسه ،  يسيره عقله باتزان محسوب ، واللحظات الآتية مخطط لها من قبل، والشاعر لحظة الإلهام الشعري، يكون تحت هيمنتها تماما ،  لا تخطيط مسبق ،  ولا هم يحزنون ولا يفرحون !! لذلك هو صادق دائما في شعره مع نفسه، ومع مجتمعه ،  إنْ عذر أو عذل، إن مدح أو هجا ،  إنْ سخط أو رضى، وهذا ليس بتبرير ، ولكنه تحليل ،  ولك أنْ تأخذ منه ما تشاء ،  وأنا ذاهب للعشاء، عشية  ليلة قمراء ،  بعد عدة أيام من السنة الميلادية الغراء ( 2012م)  ،  لقاؤنا في الحلقة الخامسة إن شاء الله، والسلام !
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) موقع المثقف الأحد 7 /8 /2011  - الشاعر الذي قهرت حافظته الشيخوخة - مقال بقلم عبد الرضا علي.
(2)عبد نور داود عمران : البنية الإيقاعية في شعر الجواهري (مشروع رسالة دكتوراه - ص 7 - 8 .       
(3) راجع الشيخ جعفر محبوبة : ماضي النجف وحاضرها ج2 ص 36  .

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق