كلما إجتثت جاكرتا نبتة شيطانية، ظهرت أخرى/ د. عبدالله المدني

لا تزال أندونيسيا تعيش تحت صدمة التفجيرات التي نفذها تنظيم داعش الإرهابي في العاصمة جاكرتا في الرابع عشر من يناير المنصرم، وما تبعها من مطاردات وحرب شوارع بين المنفذين وقوات الشرطة، على شاكلة ما وقع في باريس.
أسفرت التفجيرات عن موت المنفذين الخمس، لكنها خلفت وراءها أيضا قتلى وجرحى من الأندونيسيين الأبرياء ومن جنسيات غربية جاءت للسياحة، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان عمليات إرهابية عديدة نفذها المتطرفون الآندونيسيون الموالون لتنظيم القاعدة في الماضي، لعل أبرزها: تفجيرات بالي الإجرامية في عام 2002، التي راح ضحيتها 202 شخص بينهم 88 سائحا استراليا، وتفجيرات الكنائس المسيحية عبر البلاد في عام 2000 والتي أسفرت عن مقتل 19 شخصا، وتفجير فندق جاكرتا ماريوت في عام 2003 الذي أودى بحياة 12 شخصا، والتفجير الذي وقع خارج السفارة الاسترالية بجاكرتا في عام 2004 وأسفر عن مقتل 9 أشخاص، والتفجير الانتحاري الثاني في بالي في عام 2005 والذي تسبب في مقتل 23 شخصا بما فيهم المنفذون، وأخيرا التفجير الانتحاري الذي إستهدف فندقي ماريوت وريتز كارلتون في العاصمة في عام 2009 متسببا في مقتل 7 أشخاص وإصابة العديد بجروح خطيرة. وبطبيعة الحال فإن كل هذه الأعمال الإجرامية قصمت ظهرت السياحة في البلاد، وأرهبت سكان العاصمة المسالمين.
وكما حدث على إثر تلك الجرائم المروعة، شمرت الأجهزة الأمنية عن سواعدها لتعقب شبكة قيل أنها تقف وراء التفجيرات الأخيرة. كما قامت بتبادل المعلومات مع مخابرات الدولتين الأخريين المهددتين من قبل داعش في منطقة جنوب شرق آسيا وهما الفلبين وماليزيا، خصوصا وأن الأجهزة الأمنية الماليزية تمتلك معلومات هامة يمكن الإستعانة بها بسبب تواجد العديد من الماليزيين الذين يقاتلون جنبا إلى جنب مع أكثر من مائتي مواطن إندونيسي في صفوف الميليشيات الداعشية في العراق وسوريا. هذا ناهيك عن أن ماليزيا، لأسباب ثقافية وإجتماعية وجغرافية، شكلت دوما ملجأ للهاربين والمطاردين من أتباع الجماعات الإندونيسية المتشددة، ومكانا للتخطيط لعمليات جديدة.
أثمرت تلك التحركات والمداهمات عن إعتقال شخص ثبت تلقيه تحويلات مالية من داعش لتمويل تفجيرات 14 يناير، وبالضغط عليه اعترف بأن الرأس المدبر والمخطط الرئيسي للعملية هو الإندونيسي "بحر النعيم" الذي يـُعتقد أنه مؤسس "كتيبة نوسانتارا" وهي مجموعة مقاتلين من جنوب شرق آسيا تقاتل مع داعش في مدينة الرقة بسوريا.
ويمكن القول أن جهود جاكرتا الأمنية والإستخباراتية تتسارع اليوم وتتجه نحو المزيد من الحراك في ظل المعلومات المتواردة عن نية الدواعش تسديد ضربات لقوات الجيش والشرطة عبر تسميم طعامهم وشرابهم كنوع من الانتقام لإفشالهم المخططات الداعشية. إذ صرح قائد الشرطة الإندونيسية الجنرال بدر الدين هايتي أن جهازه يملك معلومات إستخباراتية تفيد بعزم تنظيم داعش وضع سم السيانيد في الطعام المقدم لأفراده، علما بأن السلطات الأمنية سبق لها أن أوقفت في عام 2012  مواطنا متشددا من المتخصصين في تقنيات الحاسوب ومعه برنامج محمول حول كيفية قتل عناصر الشرطة بوضع السيانيد في الفلفل الحار المستخدم بكثرة في الأطباق الإندونيسية. ويمكن هنا أن نضيف إحتمال سعي الدواعش ومناصريهم في أندونيسيا لإستنساخ ما حدث في منتصف يناير الماضي حينما قامت ضجة إعلامية حول وفاة طالبة إندونيسية تدعى ميرنا صالحين بعد أن قدمت لها زميلتها الاسترالية جيسيكا كومالا قهوة باردة ملوثة بالسيانيد.
لقد كان الإعتقاد السائد لبعض الوقت أن جاكرتا نجحت في القضاء على التنظيمات الإرهابية المتواجدة على أراضيها من تلك التي تفرعت عن تنظيم القاعدة، ووجدت من يستمع إلى خطابها ويروجه كالاندونيسي من أصول حضرمية "أبوبكر باعاشير" الذي أعلن من سجنه في أغسطس 2014 مبايعة داعش. لكن ذلك الإعتقاد تضعضع اليوم مع تسرب الدواعش إلى البلاد، وقدرتهم على تجنيد بعض الاندونيسيين للقيام بأعمالهم القذرة.
أما لماذا إختار تنظيم داعش أندونيسيا كهدف رئيسي في مشروعه الإجرامي لخلق موطيء قدم له في جنوب شرق آسيا، فأسبابه كثيرة: أولها أنها بلاد نفطية وذات ثروات معدنية متنوعة وبالتالي فهي مصدر للأموال التي يحتاجها التنظيم للتمدد، وثانيها أن هذه البلاد هي كبرى البلاد الإسلامية وتتميز بتضاريس مثالية للكر والفر والتخطيط والإختباء، وثالثها أنه يوجد ضمن سكانها من يسهل إقناعه بالقتال في الجبهات الخارجية عبر إستثارة الحمية الدينية فيه، وتلقينه ما ليس في الدين على أنه فروض إسلامية، ورابعها إنتشار وسائل التواصل الإجتماعي وتقنياتها بكثرة في هذه البلاد وغرام الإندونيسيين الشديد بها، الأمر الذي تسهل معه عملية التواصل معهم بغرض تجنيدهم وتحفيزهم وغسل أدمغتهم. أما آخر الأسباب فهو إستثمار جهود تلك الفئة من الأندونيسيين الذين راهنوا ذات يوم على أسامة بن لادن لقيادة دولة الخلافة الإسلامية، ويبحثون اليوم عمن يجدد آمالهم وأحلامهم الطوباوية.

د. عبدالله المدني
*أستاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: فبراير 2016.
الايميل: Elmadani@batelco.com.bh

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق