كانت تتكوم على الرصيف الملاصق لمبنى المصنع المتهالك ساعات وساعات، سيدة ريفية أربعينية العمر، ثيابها ملونة مهلهلة تحمل بقايا ثراء قديم، وجهها ممصوص وشاحب وعيناها زائغتان، لكن فيهما مذلة الكون. أيام وأيام لا يتغير أي شيء في جلستها، هي على ذات الوضع، تصورنا أنها شحاذة، لكنها لم تطب قط أي "شىء لله"، تصور أحدنا أنها من المعارضين لإغلاق المصنع أو أنها من المقيمين في المنزل الذي انهار منذ بضعة أيام وما زالت بقاياه في عرض الطريق دون تدخل من بيده الأمر لحماية خلق الله من برد الشتاء وتوفير معيشة إنسانية.. لكن كيف يفعلون؟ ولماذا يفعلون؟ هذا الرأي من أحد زملائنا بدا منطقيًا، ولكنه لم ينف شكوكنا حول السيدة، ماذا تفعل هنا كل يوم؟ منتصف الحكاية كان كالتالي: بعد فترة أظنها طويلة وجدت فوطة متسخة في يدها، تقترب بها مترددة وخائفة من زجاج سيارتي، استغلت انشغالي بتدوير الموتور، وتنزيل الفرامل، وبدأت في مسح الزجاج بهمة، ومنه إلى جسم السيارة. أعطيتها "اللي فيه النصيب"، ومن بعدها وجدتها تفعل ذات الشيء مع سيارات أخرى. وفى إحدى المرات وجدت لدى فضولا غريبا أن أعرف قصتها التي لم تتردد ولو لثانية واحدة في سردها، اسمي عبير من سوهاج على باب الله .ظل التساؤل: لماذا اختارت شارعنا وهو صغير جدًا وليس حيويًا، معظم من فيه، سكان، أي ليسوا بحاجة لأن ينظف أحد سياراتهم؟ بعد المنتصف: زادت حركة السيدة، وارتفع صوتها تدريجيا" آه يمين، شمال شويه، بس.. بس".. ليركن سيارات الجميع، ومع الفوطة المتسخة، أصبح هناك"جردل" به ماء وصابون وغيرهما من المستلزمات، كانت تنظف بنشاط وهمة غريبة السيارات، وتتحدث مع الجميع بصدق وأدب ولا تتردد في سرد حكايتها لأى عابر سبيل. بعد فترة وجدت معها شابًا، أقل منها في السن، والحجم، وبالطبع ارتفع صوتها أكثر، وزال ترددها، وأصبحت في مكانها طمأنينة ما واستقرار ما، يتم ركن سيارات عديدة معا، وتجرى وشريكها هنا وهناك. وتوقف من كانوا يعتبرونها غريبة ومريبة، وخفتت الشكوك تقريبًا.. لقد أصبح وجودهما طبيعيا. ما بعد منتصف الحكاية: هي دى الطريقة الجهنمية المصرية المبتكرة لاختراع سكة لأكل العيش، الطريقة الجهنمية لاختراع الشيء من اللاشيء.
إقرأ أيضاً
-
بحكم أن الجزائر خضعت للحكم العثماني لمدة تفوق 300 سنة ( 1518 - 1830 ) هذه المدة الطويلة كانت كفيلة لانتقال الموروث العثماني إلى المجتمع ...
-
تَرادَفتْ نَبضاتُ القُلوب على وَقع الخُطى المُتَسارعة كأنها سَنابِكُ خيلٍ في مَيدانِ حربٍ تَعالتْ فيهِ صهيلُ الخُيول الصائِلة ، هكذا تَبادَر...
-
ان كلمة شعر shaer تعبير قديم معروف متوارث منذ عهود السومريين والاكاديين والبابليين ومن بعدهم في ارض وادي الرافدين ، وان اقدم نصوص شعري...
-
أجمل ما كان يمكن ان يثير انتباهي، ويخرجني من حالة الانبهار والاحباط التي جعلتني انزوي في ركن مقهى بجانب المصحة التي ظلت محافظة على اسمها...
-
... فن الخسارة جملة سمعتها أثارت انتباهي وجعلتني أتساءل هل الخسارة لها فن ؟ وما هو هذا الفن ؟ وجدت أنها تعني أشياء كثيرة ليس لها علاقة بالمع...
-
NA VEIA DO AMOR * POEMA DO POETISA BRASILEIRO : MARIA APARECIDA MARQUES SOUZA / BRASIL - * TRADUÇÃO FEITA PELO POETA TUNISIANO : MOHY C...
-
مشاركة : مفيد نبزو ـ مهداة إلى أمي ، وزوجتي ، وكل أمهات العالم . من القصائد المعتبرة عالميا ًمن أفضل ما كتب عن الأم ، فقد كتبها الشا...
-
" إن الإنسان يكون قيما على نفسه بقدر ما يكون عيشه على مقتضى العقل وبالتالي لأن المدينة تكون أشد بأسا وأكثر استقلالية بقدر ما تقوم ع...
-
لم أضربْ طنبوراً أو طبلا أو أنفخُ تيّارَ هواءٍ في مزمارِ السحرِ لا أعرضُ للعسكرِ مجاناً حلوى لا ترقصُ قُدّامي أفعى كُبْرا لا أُدخِلُ ...
-
البيت هو المدرسة الأساس في حياة الأجيال الطالعة، كبيرة إسمها ماجدة الرومي، هي إبنة الموسيقار الكبير حليم الرومي... والدها وكل عائل...
0 comments:
إرسال تعليق