هنا دفنوكَ يا قلبي/ يوسف ناصر

 " إلى روح ميّ زيادة  في الأخدار السماويّة، وفاءً لمن أحسنتِ الظنّ بالنـّاس كثيرًا ، لكنّها يوم نظرتْ حولها أيّام الحَجْر على أملاكها، لم تجد واحدًا يسعفها منهم ..!"

                  .. ويح لي ساعة  كنت جالسـًا وحدي، أستظل بظل اللـّيل الوارف  ، كي أحتمي من حرّ هذا العالم وقيظه الحارق، وأعصب  قلمي  النـّازف ، وأصغي إلى خرير قلبي وموجه الصّاخب، وأدفع عن روحي  جماجم الجمر الـّتي سقطت ُتدهْدِهُها البراكين فوق رأسي من كلّ ناحية.. ، إذ روّعني نواح أمّ  في أسبوع الآلام ، وقد جاءني يتهادى في مسمعي من كلّ موضع، وهي تطوف فوق القبور تحثو التراب على وجهها صارخة: " هنا دفنوك يا قلبي ، وهناك قطـّعوك يا كبدي ..! " وإذ عبَرني الصّوت ، وقد شاهدْته راكبـًا  خيوله، تجمح به شرقـًا، ليحمل  للدّنيا خبر هذا العالم المفترس ، صرختْ صاعقة في فمي : "  أيّتها الأخوات النائحات في كلّ موضع..! يا قتيلات الدّجل والزور والعنصريّة  في الأرض..  يا من لو وضعتُ الشـّمس بسمةً  في أفواهكنّ ، لاختفتْ في ظلمة أحزانكنّ وانطفأتْ ..! إنّ لي قلبـًا أيّتها الأخوات، ولا كتلك القلوب الجرداء في هذا العالم، سبقني إليكنّ حيث أنتنّ في هذه المسكونة.. فتعالـَيْنَ إليّ تجدْنَ أبوابه مفتـّحة لاستقبالكنّ في هذا الوهج الحارق...!! ويا أيّها المعذبون في الأرض حيث أنتم، أنا ما زلت أقف هنا منذ صباح العمر ، أجوع ببطونكم، وأعطش بحناجركم، وأبكي بعيونكم، وأمشي فوق الرمضاء حافيًا بأقدامكم، وعاريًا في البرد بأجسادكم من أجل عزائكم ، وعسى أن يكون لكم قبس بسمة، وومضة أمل حيث أنتم في  الظلمة العمياء..!                                                                                   
                 أجيبي أيّتها الدّنيا، وتلفّتْ أيّها السّلام الـّذي يطوف في الأرض  مطرودًا من كلّ بيت..! لماذا أينما سرتُ في الزّحام بين أكثر أبنائكِ ، لا أصدِم كتفي إلاّ بكذّاب قرين كذّاب، ودجّال خِدْن دجّال، ومراوغ رفيق مراوغ، لبس ثوب العنكبوت، وراح يختفي وراء شبكته  ليصطاد الأبرياء من بني البشر ..! لقد شاهدتُ للكذب في ترحالي الطـّويل في قلوب النـّاس، وبأمّ عيني،  كهوفـًا، وأجحارًا، وأوجرة ، ومغاور كثيرة، حفرها أبناؤه في بطن الأرض من صدورهم..! هذا يخبّئ  فيها عنصريّته، أخبث أمراضه وأمراض الناس طُرًّا، وذاك يواري طمعه، وبخله، ومكره، وجبنه.. وأولئك يخفون سرقتهم ، وبغضاءهم ، حتّى غدا الكذب لباس ألسنتهم ، به يسترون عن أعين الناس ما في الآبار تحت أضلعهم ..! ترى الشّوكة بينهم تلبس حلــّة الزّهرة ، وتتلـفّع العقرب بطيلسان الفراشة ، ويتدثّر الذئب بثوب الحَمَل، وتختال النـّار بقامتها الحمراء في الغابات، وهي ترتدي قميص أرجوان من ترشاش الرّذاذ  عند بزوغ الشـّمس..!  
             .. لذا، ومِنْ أجل أن أحمي نفسي من غبار الألسنة ، اعتدتُ دائمـًا أنْ أقول لكلّ مَن جاء إليّ  حيث أقيم في الدّير النـّائي في الصّحراء.. : تعـَرَّ أوّلاً واخرِج ِ الإنسان المختبئ  في أعماقك قبل أنْ أخاطبك ، وُقم ِاجمع ِالحطب واحرِقـْه أمام عينيّ  مع تقاليدك..! لأنـّني أخذت على نفسي عهدًا  ألاّ أخاطب في حياتي إلاّ العُـراة في هذا العالم ..!  ويا شـَقـْوتي ، حين رأيتهم في الحال يَنـْفـَضّون مِن حولي، وهم  يُجمجمون بحَنـَق خارج الباب : كيف لنا أن نكشف عن عوراتنا للنـّاس..! وكيف يرجو أن نطرح عنّا أمراضنا ، وفيها عافيتنا.. وهي معاشنا.. وقوت أولادنا، ومنها نرتزق..! فقلت في نفسي : ليت آدم وحوّاء قد بقيا عاريين منذ ذلك اليوم الذي لبسا فيه ورق التـّين، فما تنوّعت الأوراق ،وما تعددتِ الملابس في هذا العالم..!
             .. لقد أطلتُ النظر في وجه الحياة أمسِ وهي شاخصة أمامي تميس بقامتها الهيفاء ، فلم أر شرّاً من الزّور والكذب تدميرًا للمحبّة بين أبنائها.. واصطيادًا للودعاء والمساكين منهم ..! فصرختُ للوقت في البريّة : أيّها الدّجّالون الـّذين تنفخون بأفواهكم نارًا وكبريتـًا، فتنبعث النـّار منها وهّاجة تصلي مروج الورد، وروابي الزّهر، وُتنفـِّر الحمائم الهُـتـَّـف عن دوحها في الخمائل، وتحملون معكم النـّواح والعذاب  لهذا العالم .. ألقـُوا الأقنعة عن رؤوسكم، كي يرى النـّاس القرون الجاسية، والأنياب الكالحة ..! تعـَرَّوا من ملابسكم، كي يرى النـّاس تحتها الحيّات الرّقـْط.. اخلعوا نعالكم ليرى الناس مخالبكم ، وأظفاركم، وبراثنكم ..! سحقـًا لكم ..! لا تبالون والعالم يجري في سفينة تحترق ، وتوشك أن ُتلقي بأبنائها في عباب الدأماء الصّاخب..!!   
             .. من قال إنّ المرء يحتاج  إلى أنياب كالحة، وينبغي ان يكون فمه ملطـّخـًا بالدّماء، حتّى يتسمّى وحشـًا مفترسًا..!! فقد يكون المرء وحشًا ضاريًا حين تدفعه أطماعه إلى افتراس حقوق الناس، والسّطو على أرزاقهم ، وهو أثناء ذلك لا يقيم في غابة، بل في أجمل المنازل والقصور..!
            .. لا يحتاج المرء أن ُيحْسِن النـّقيـق في اللـّيل، والنـّزو بين الوحول، ويقيم على الضّفاف تحت الطـّحالب، حتّى يتسمّى ضفدعـًا..! فقد يكون المرء ضفدعًا نقـّاقـًا في الحياة حين لا تنفع ثرثرته أحدًا، ولا يقضي حياته إلاّ مِهذارًا في عصبة من الصّراصير واليرابيع في اللـّيل الدامس..!
               .. لا يحتاج المرء  أنْ نرى فوق فـَودَيه قرونـًا ، وفي رجليه أظلافـًا كي نسمّيه نيزبـًا ، أو ثورًا ذيّـالا.ً. إنّ من النـّاس نطـّاحـًا بطمعه، وقسوة قلبه، وُيتلف آمال النـّاس المزروعة في الحقول الفسيحة.. وهو لا يقيم على الحشائش في الحظائر، بل على الطـّنافس والفراش الوثير..!
              .. لا يحتاج المرء كي يكون أفعوانـًا صلاّ ً، أن يُنضْـنِض بلسانه ويستخفي بين الأشواك والأعشاب، و ينساب على بطنه فوق التـّراب.. إنّ الذي يغتاب النـّاس ويلدغ بلسانه شرفهم، ويرمي الإبر في قلوبهم، أفعوان صلّ هو، وإن بدا لأعين الناس بأجمل الحُلل وأنفس الثـّياب..!
                 نامي ميّ  ُممجّدة في الأخدار السماويّة ولا تجزعي .. ورفـّهي عن قلمك الـمُضنى وروّحيه..! يا نبعة الأدب، ونفحة الحقب، إنّ قبرك الشذيّ قارورة طيب تحت الثرى، أرى نيسان كلّ عام يقف على بابه ليأخذ منه عطرًا لروابيه، وُمجاجًا لأزاهيره .. لستِ وحدكِ في هذا العالم من كذب الناس عليكِ،وخذلوكِ، وأنكروكِ، ولم يحفظوا لك جميلاً..بل جازَوكِ عن معروفكِ شرّا..حسْــُبكِ في أسبوع الآلام أسـوة بالسيّد المسيح الذي يصلبه الناسّ كلّ يوم منذ ألفي عام .. ويبقى هو القائل دائما : " يا أبتاهُ ، اغفـِرْ لـَهُم لأِنَّهُمْ لا يَعْـلمُونَ مَاذا يَفـْعَلـُونَ"  .  

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق