الوساطة بين الوردي وطه حسين/ د. عدنان الظاهر

عرض تمهيدي :
كتب الدكتور حسين سرمك حسن مقالة في موقع النور ( الرابط في أدناه ) تعرّض فيها بالنقد لرأي أو فرضية أو نظرية المرحوم طه حسين في الشعر الجاهلي والفروق بين لغة حمير في اليمن ولغة عدنان في باقي أنحاء جزيرة العرب.أنقل بعض ما قال طه حسين بهذا الصدد :
( فأول شئ أفجؤك به في هذا الحديث هو أنني شككتُ في قيمة الأدب الجاهلي وألححتُ في الشك، أو قلْ ألحَّ عليَّ الشك ،فأخذت أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبر ختى انتهى بي هذا إلى شئ إلاّ يكن يقيناً فهو قريب من اليقين. ذلك أنَّ الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً ليست من الجاهلية في شئ، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل الجاهليين. ولا أكاد أشك في أنَّ ما بقيَ من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئاً ولا يدل على شئ ولا ينبغي الإعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي ( ليت طه حسين قدّم أمثلة من هذا الأدب الجاهلي الصحيح / عدنان ). وأنا أقدر النتائج الخطيرة لهذه النظرية. ولكني مع ذلك لا أتردد في إثباتها وإذاعتها ولا أضعف عن أنْ أُعلن إليك وإلى غيرك من القرّاء أنْ ما تقرأه ( مكتوبة تقرؤه ! ) على أنه شعر امرؤ القيس ( الصحيح شعر امرئ القيس ) أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شئ، وإنما هو نحل الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين ( الصفحة 83 من المصدر الأول ). 
لم يُنكر طه حسين إذاً وجود الشعر الجاهلي (1) لكنه قال لقد ضاع معظمه وما وصلنا منه إنما هو الجزء البسيط. لكنه تعرّض وبحق لمسألة هامة هي الفروق بين لغة عدنان التي نزل القرآن بها ولغة حمير في اليمن وعرض نماذج لبعض الكلمات الحميرية وبيّن الفروق بينها وبين لغتنا العربية لغة عدنان في جزيرة العرب. أراد الرجل بذلك أنْ يبرهن أنَّ الشعر الجاهلي المنسوب لشعراء اليمن قبل الإسلام أمثال طّرَفة بن العبد وعنترة العبسي وحاتم الطائي مثلاً إنما هو شعر منحول أصلاً لأنَّ شعر هؤلاء الشعراء جاءنا مكتوباً بلغة عدنان العربية وهي لغتنا حتى اليوم بينما هم في الأساس شعراء يمنيون حميريون واللغة الحميرية هي غير لغة عدنان العربية فهل أخطأ طه حسين في ذلك ؟ الجواب لا و نعم! لا لم يُخطئ لأنَّ اللغتين مختلفتان نحواً وصرفاً ونُطقاً. ولا للسبب الآتي : إذا سلّمنا أنّ لغة هؤلاء الشعراء الفحول الثلاثة طرفة وعنترة وحاتم الطائي هي لغة أهلهم وآبائهم وأجدادهم، وهي لغة حمير، ولكن ما الذي منعهم من معرفة عربية عدنان وكتابتها شعراً واليمن كانت ولم تزل إمتداداً جغرافياً للجزيرة العربية حيث التجارة بين الشمال والجنوب ومواسم الحج لكعبة إبراهيم الخليل وأسواق البيع والشراء وأكثرها شُهرة سوق عكاظ وما كان عكاظ السوق الوحيد في الجزيرة. ثم لا ننسى تنقلات القبائل العربية الموسمية والدائمة من مكان لآخر طلباً للكلأ والماء أو للتبادلات التجارية أفلم تكن لتجّار قريش رحلتان صيفية لبلاد الشام وأخرى شتوية لليمن وقد ورد ذلك في القرآن في سورة قُريش ( لإيلاف قُريشٍ. إيلافهُم رِحلةَ الشتاءِ والصيفِ.فليعبدوا ربَّ هذا البيتِ. الذي أطعمهم من جوعٍ وأمّنهم من خوف ). ثمَّ ألمْ يقدْ محمد قبل بعثته قوافل تجارة خديجة إلى بلاد الشام ؟ فبأية لغة تكلم وتفاهم وتاجر أهل اليمن الحميريون مع باقي قبائل الجزيرة من عرب عدنان ؟ ألا يفرض عليهم هذا الواقع أنْ يُتقنوا عربية عدنان وعلى عرب عدنان من الجانب الآخر أنْ يتعلموا ويُتقنوا لغة اليمنيين الحميريين ولغة أهل الشام؟ أفترض في ضوء هذه الحقائق أنَّ الشعراء هم أولى أهل اليمن زمن الجاهلية وقبل الإسلام وبعده أنْ يتعلموا لغة عدنان العربية ويقولوا أشعارهم بها ليُشهَروا بين القبال في جزيرة العرب وهذا ما كان يحصل في مواسم الحج وإقامة أسواق عكاظ وتعليق معلّقاتهم على جدران الكعبة. هذا مجرد فرض لكنه فرض معقول ومقبول ومُبَرر وتكهّن لا غرابة فيه ولدينا اليوم في زماننا المعاصر أمثلة ونماذج كثيرة لأدباء وشعراء من بلدان أو شعوب صغيرة كتبوا بلغات أمم كبيرة لضمان إنتشار ما كتبوا بين بقية الشعوب والأمم يحضرني من بينهم القاص المجري كافكا فقد كتب ونشر ما كتب باللغة الألمانية ثم جبران خليل جبران كتب بعض كتبه باللغة الإنكليزية منها كتابه المعروف " النبي " كما كتب إدوارد سعيد في زماننا كتبه بالإنكليزية الأمريكية. وعليه أستطيعُ أنْ أزعم أنَّ شعراء الجاهلية من أصحاب المعلّقات من اليمن الحميرية كانوا على علم بلغة العرب العدنانيين . 
قرر طه حسين أنَّ الشعر المنسوب لحقبة الجاهلية إنما هو شعر منحول وشعر موضوع وُضع في زمن الإسلام وكُتب بلغة العرب العدنانية المعروفة قبل البعثة المحمدية ونزول الدين الإسلامي وكانت لغة العرب في جزيرتهم ولغة آباء وأجداد أجداد محمد الرسول. لذا فما وجد بعض الباحثين، ومنهم طه حسين، من أوجه شبه بين القرآن والشعر الجاهلي أساسها تأثر القرآن ولغة محمد بأدب ولغة العرب قبل الإسلام وهي الأول وهي الأصل. وعليه فلا من سبيل للقول إنَّ الشعر المنسوب لزمان الجاهلية قد تأثر أو شابه القرآن في شئ فالعكس هو الصحيح : تأثر القرآن بلغة الشعراء الذين كتبوا أشعارهم بلغة عدنان. 
للأسف ليس في حوزتي كتاب المرحوم علي الوردي " أسطورة الأدب الرفيع " لكني قرأتُ ما اقتبسَ الدكتور حسين سرمك حسن من هذا الكتاب. أقولُ في المرحوم الدكتور علي الوردي إنَّه ظلم الرجلَ طه حسين وتعسّف القول فيه وكان بذلك مُتسرعاً كما إخالُ لماذا وكيف ؟ أنقل حرفياً ما كتب الدكتور حسين سرمك في بحثه آنف الذِكْر/ 
تفنيد نظرية طه حسين حول انتحال الشعر الجاهلي : 
( ويمكنني أن أعد موقف الوردي في العراق الناقم على الشعر العربي القديم والرافض لمرجعيته المعرفية المهيمنة على الحياة العقلية العربية في الخمسينات مشابها في تأثيره لموقف الدكتور " طه حسين " في مصر الذي فجّره عام 1924 مع الفارق الواسع بين طبيعة الدعوتين وأهدافهما ، والاتجاه " الإيجابي " لدعوة الوردي مقابل الاتجاه " السلبي " لدعوة طه حسين عن " انتحال " الشعر الجاهلي . كانت دعوة طه حسين قريبة من روح المخالفة الساذجة ، وتحمل طابع " الصرعة " ، بخلاف دعوة الوردي المنهجية المدروسة ). 
وقد كان للوردي تقييم مهم لنظرية طه حسين يوضح الفارق بينها وبين نظريته الثورية . يقول الوردي : 
( وحين ندرس نظرية طه حسين التي جاء بها في هذا الصدد نجدها لا تستحق مثل هذه الضجة . إنها في الواقع نظرية واهية وفيها من السخف شيء كثير . ولكن الضجة هي التي أسبغت عليها تلك الأهمية الكبرى . وقد حاولت في العام الماضي - وحديث الوردي هذا في العام 1956 - نقد تلك النظرية في محاضرة عامة ألقيتها في قاعة كلية الآداب والعلوم . وكادت محاضرتي تُحدث ضجة أخرى لولا ستر الله ) (279) . 
ويهمني هنا أن أنقل نقد الوردي لنظرية طه حسين لأنها تعبّر عن العقلية النقدية الحادة التي يتمتع بها الوردي أولا ، وعن منهجية مشروع الوردي وقصديته من ناحية ثانية ، لأنه لو كان جهد الوردي يقع ضمن إطار قاعدة " خالف تُعرف "، كما وصفه الدكتور عبد الرزاق محي الدين وغيره من خصومه، لكان قد وجد في مساندة نظرية طه حسين ما يعزّز " صرعته " المخالفة وحضوره التحرّشي . لكن الوردي يشتغل على مشروع معرفي تنويري تثويري . يقول الوردي : 
( يعتقد الدكتور طه حسين أن الشعر الجاهلي الموجود بين أيدينا ليس جاهليا ، إنما هو منحول اختلقه الرواة في عصر متأخر . واستند الدكتور في ذلك على مقارنة الشعر الجاهلي بما جاء في القرآن من وصف لحياة الجاهلية أو انتقاد لها . يقول الدكتور طه ، إننا حين ندرس القرآن نجده يمثل أهل زمانه تمثيلا مباينا لتمثيل الشعر لهم ، ونحن مخيّرون إذن بين أن نكذّب القرآن أو نكذّب الشعر الجاهلي . ولمّا كان القرآن صادقا فلا بد أن يكون الشعر هو الكاذب أو المكذوب " (280) .  ثم يلخّص الوردي الفروقات التي أقام على أساسها طه حسين مقارنته بين الحياة التي يمثلها القرآن وتلك التي يمثلها الشعر الجاهلي وفق المقارنة التي عقدها طه حسين فيحدّدها بما يلي : 
1-يمثل القرآن لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال ويعلنوا في سبيلها الحرب التي لا تُبقي ولا تذر . أما الشعر الجاهلي فيمثل لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي والعاطفة الدينية المتسلطة على النفس وعلى الحياة العملية . 
2-والقرآن يمثل حياة عقلية قوية وقدرة على الجدال والخصام في مسائل فلسفية كالبعث والخلق .. أما الشعر الجاهلي فيمثل حياة الجهل والغباوة والخشونة .. 
3-والقرآن يحدثنا بأن العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم .. أما الشعر الجاهلي فيمثّل العرب كأنهم أمة منعزلة في صحرائها .. 
4-والقرآن يحدثنا عن انقسام المجتمع العربي إلى طبقات .. ويذكر ما كان في العرب من بخل وطمع وظلم وبغي وأكل أموال اليتامى .. أما الشعر الجاهلي فيمثل العرب أجوادا كراما مهينين للأموال مسرفين بازدرائها .
5-والقرآن يذكر البحر والسفن واللؤلؤ والمرجان وغير ذلك من شؤون الحياة خارج الصحراء . أما الشعر الجاهلي فلا يعرف غير حياة البادية ) (281) . 
هذه هي الخلاصة الشافية التي يقدمها الوردي ، وهي وافية أيضا ؛ يدرك ذلك من قرأ كتاب طه حسين . لكن النباهة الوردية تظهر في النقد الذي يقدّمه لهذه النظرية والذي يستهله بالالتقاطة الحاذقة عن أن النقّاد الذي انبروا ليعارضوا وينتقدوا ما طرحه طه حسين حول منحولية الشعر الجاهلي لم تخرج أدلتهم وبراهينهم عن النطاق الذي افترضه طه حسين مقدّما في كتابه . أي أنهم استُدرجوا إلى المصيدة التي نصبها - بذكاء - طه حسين ، حيث أخذوا يأتون بالأدلة من الشعر الجاهلي للتدليل على أن هذا الشعر بحث كل جوانب الحياة التي تناولها القرآن ، وبذلك فهو يمثل الحياة الجاهلية أصدق تمثيل. 
ثم يقدّم الوردي وجهة نظره النقدية التي تفنّد نظرية طه حسين والتي أقتطع منها مدخلها ، وأترك للقاريء الكريم الإطلاع عليها كاملة في كتاب الوردي " أسطورة الأدب الرفيع " - الصفحات 122 إلى 127. يقول الوردي - ولاحظ البساطة في الاستنتاج - :
( نسي هؤلاء ، كما نسي الدكتور طه حسين ، شيئا واحدا كان الجدير بهم أن لا ينسوه . وبهذا ضاعت جهودهم وجهود دكتورهم هباء . لقد نسوا أن القرآن يمثل الحياة الجاهلية من زاوية تختلف عن زاوية الشعر الجاهلي ، وأن كليهما كان صحيحا في تمثيله بالرغم من تفاوتهما في التصوير . مما يجدر ذكره أن القرآن يمثل ثورة اجتماعية ودينية ضد المترفين الذين كانوا يسيطرون على المجتمع المكّيّ . إنه كان بعبارة أخرى يحارب قريشا وينتقد وثنيتها ورباها واستعلاءها وبغيها ونكثها بالعهود . أما الشعر الجاهلي فكان غير مكترث بمكة وبما يجري فيها . إنه لا يرى مكة إلا في موسم الحج ، وهو يراها حاشدة بالناس وقد امتلأت بالثريد الذي كانت قريش تقدمه لهم وفيرا . كان الشعر الجاهلي في معظمه يمثل الحياة البدوية التي تسود القبائل خارج مكة . وليس عجيبا بعد هذا أن نجده مختلفا عن القرآن في تصوير الحياة . إنه بواد والقرآن بواد آخر . وشتّان ما بين الواديين ) (288) . 
ثم يطرح الوردي عاملا آخر لم ينتبه إليه طه حسين ، ولا - ويا للمفارقة - ناقدوه - ويتمثل في ضعف الملكة الشعرية لدى الأفراد في قبيلة قريش وما يترتب على ذلك من أن الشاعر الذي يأتيها من الصحراء في موسم الحج أو في مواسم أخرى طمعا في مكرمات زعمائها حتى لو كانت مضامين قصائدهم مناقضة تماما لما يجري من مفاسد ومظالم في الحياة اليومية لقريش ).
بعيداً عمّا قال طه حسين وما أضاف وفنّد وقال علي الوردي أستطيع إضافة عنصر آخر أرى أنه يؤكّد أو يبين مديات معرفة وتأثر النبي محمد بظاهرة الشعر حتى أنه أفرد سورة كاملة خاصة أسماها " الشعراء " هاجم فيها الشعراء من قبيل ( والشعراءُ يتّبعُهُم الغاوون. ألمْ ترَ أنهمْ في كلِّ وادٍ يهيمون. وأنهمْ يقولون ما لا يفعلون.الأيات 224 و 225 و 226 من سورة الشعراء ). ثم كثرة ما عانى النبي من تخرّصات وشتائم خصومه من قريش إذْ لم يكفّوا عن وصمه بنعوت مهينة غير لائقة مثل " شاعر وساحر وكاهن ومجنون ". إذاً كان يعرف ثقل ووزن الشعر والشعراء في مجتمع مكة قبل وفي زمن بدء النبوة والتبشير بها عَلناً وسرّاً. فكيف عرف أنَّ العرب في جاهليتهم كانوا يقرضون الشعر ويتداولونه حفظاً في الذاكرة وحفظاً على القلوب وربما كتبوه على ما كان متيسراً من وسائل الكتابة إذا لم يكنْ موجوداً أصلاً أو أنَّ ما وصل منه حتى للنبي محمد يمثّلُ شيئاً يسيراً متواضعاً ؟  

هوامش
رابط بحث الدكتور حسين سرمك حسن في موقع النور
http://www.alnoor.se/article.asp?id=289911
1ـ طه حسين / من تاريخ الأدب العربي . المجلد الأول، العصر الجاهلي والعصر الإسلامي الصفحة 83 . الناشر : دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة أيلول 1981.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق